كثيراً ما تحدّث الناس عن قِدَم الشعر العربيّ دون أن يُقْدموا على الخوض في تحديد عمره على وجه التدقيق، لعدم شيوع ثقافة الكتابة، وصمت التاريخ، وشحّ التوثيق، في عهود ما قبل الإسلام لدى أوائل العرب. وكلّ ما عثرْنا عليه من النصوص التاريخيّة التي تحدّد عمر هذا الشعر ، أنّ ميلاد الشعر العربيّ يعود إلى «دهر طويل»، قبل ظهور الإسلام. والحقّ أنّ عبارة «دهر طويل» التي شاعت في طائفة من كتب التراث، كما سنرى، والتي وُصِفتْ بها أبياتٌ شعريّة عُزِيَتْ إلى الأضبط بن قريع السعديّ، لا تعني شيئاً كثيراً. ذلك بأنّ هذا الدهر قد يكون قرنين أو ثلاثة، كما قد يكون عشرين قرناً فما فوق ذلك. مثلها مثل عبارة: «وهو قديم»، وذلك وصْفاً للشاعر الأضبط نفسِه، حين ذُكِر قبل إثبات شعره. ولكنْ من حسن الحظّ أنّ عالماً نحويّاً وراوية للشعر، تفرّد، فيما يبدو، بتحديد هذا «الدهر الطويل» ب«ألفِ عامٍ»، قبل الإسلام. فقد ذكر أبو العلاء المعريّ أنّ أبا عبيدة، معمر بن المثنى، كان يقول عن الأبيات المرويّة للأضبط بن قريع التي سنُثبتها: إنّها «قيلت: من ألف سنة». والأبيات هي: لكلِ قومٍ من الهُموم سَعهْ والْمُسْيُ والصُّبْحُ لا فلاح معهْ فصِلْ حِبالَ البعيدِ إنْ وصَلَ الْ حبلَ، وأقْصِ القريبَ إن قطعَهْ وخُذْ من الدهر ما أتاك به مَن قرَّ عيناً بعيشِه نفَعَهْ لا تحقِرَنّ الفقيرَ علّكَ أنْ تركَعَ يوماً، والدهرُ قد رفعَهْ يجمعُ المالَ غيرُ آكِلِهِ ويأكلُ المالَ غيرُ مَن جمعَهْ وعلى أنّ من الرواة من يسبق لفظ «والْمُسْيُ» على لفظ: «والصبح». وقد زِيد على هذه الأبيات، فبُلِغَ بها إلى تسعة. وقد رُوي شعر الأضبط بن قريع إما في بيت واحد، وهو كثير؛ وإمّا في بيتين اِثنين؛ وإمّا في ثلاثة أبيات؛ وإمّا في أربعة؛وإمّا في خمسة؛ وإمّا في سبعة؛وإمّا في ثمانيَة؛وإمّا في تسعة، وهو أقصى ما بلغ به الرواة من حجمه. كما لا يُعرَف لهذا الشاعر، فيما نعلم، أيّ شعر آخرَ مذكور. وقد كلِف بمقطَّعة الأضبط بن قريع الأجداد، كما رأينا ممّا ذكرْنا في بعض الإحالات، فتواترت في كتبهم، فذُكرتْ في معظم مصادر الأدب. ويبدو أنّ الجاحظ هو أوّلُ مَن ذكر، من خلال متابعتنا للمصادر التي أوردت شعر الأضبط بن قريع، هذه الأبياتَ التي لم يجاوز بها خمسة، وهي الأبيات التي قال عنها أبو العباس ثعلب، العبارة المشهورة: «هذه الأبيات قيلت قبل الإسلام بدهر طويل»، كما سبقت الإيماءة إلى ذلك. غير أنّا نلاحظ أنّ أبيات الأضبط، حسَبَ ما أجمعتْ عليه مصادر التراث الأدبيّ، مستوية الوزن، مستقيمة اللغة، بل تقوم على تحكّم كامل في اللغة الشعريّة باللعب بها، كما في قوله مثلاً: قد يجمعُ المالَ غيرُ آكِلِهِ ويأكلُ المالَ غيرُ مَن جمعَهْ ولا يعني ذلك، إذا صحّت رواية هذا الشعر من حيث متنُه، إلاّ أنّ الشعريّة العربيّة كانت مزدهرة، مستوية من الوجهتين الفنّيّة والعَروضيّة، على عهد الأضبط بن قريع، ممّا يحمِلنا على افتراض وجود أشعار قبل عهده، وأنّ هذه الأبيات ليست إلاّ تتويجاً لمرحلة طويلة جدّاً، من عمر الشعر العربيّ، سبقت الأضبط بن قريع. وإذا كان من حقّنا أن نبنيَ، على عبارة قدماء الرواة والمؤلفين العرب الذين أجمعوا على أنّ هذه الأبيات إمّا قيلت قبل الإسلام بدهر طويل، وإمّا قيلت، تحديداً، بألفِ سنة قبله (وعملاً بمقولة الجاحظ التي تعيد عمر الشعر العربيّ إلى مجرّد قرنين اِثنين فقط قبل الإسلام): فإنّ عمر الشعر العربيّ «الرسميّ»، الثابت بالرواية والكتاب: هو زُهاءُ خمسةٍ وعشرين قرناً ممّا يَعُدّون، منها عشرةُ قرونٍ سلخها قبل الإسلام. وركوحاً إلى بعض ما ذكرْنا، فإنّا نفترض أنّ الشعر العربيّ، وبغضّ الطرْف عن المقطّعة التي رُوِيتْ للأضبط بن قريع السعديّ، وأنّها تعود إلى عشرة قرون قبل ظهور الإسلام، فإنّ الشعر العربيّ لا يقلّ أقدميّة عن الشعر الإغريقيّ، وأنّ الذين يرون أنّ العرب كانوا منعزلين في شبه جزيرتهم لا يَرِيمُون عنها، لا ريبَ في أنّهم غيرُ مُصيبين، فالقرآن يتحدّث عن رحلتي الشتاء والصيف، وعن الروم، وعن جبل الطور، وعن مصر، وعن الجدار التلمسانيّ، من الأماكن القاصية عن جزيرتهم؛ وأنّ تلك الرحلات لم تكُ، إذن، تجاريّة فحسب، ولكنّها كانت أيضاً ثقافيّة، وذلك بحكم أنّ قادة قوافلها كانوا، في الغالب، من شخصيّات قريش وسَرَاتِها ونبهائها، فلم يكن مستبعَداً وهم في الشام القريب من تركيا واليونان أن يتسقّطوا، مُقامَهم بها، أخباراً أدبيّة عما كان في اليونان القديم، وإن بوجه سطحيّ.