إن الحديث عن عمار بلحسن حديث تتجاذبه تقاطبات فكرية وفنية وجمالية واستكشافية، و تحتاج هذه التقاطبات إلى جهاز مفاهيمي، يستنبط مجموعة من الأدوات الإجرائية الكفيلة بالوصول إلى جماليات الكتابة عند هذا المبدع، فهل لإدراك هذه الغاية علينا أن ننطلق من مسلمات مسبقة ونواصل قراءة الرجل ضمن منظومة معرفية تنشد استمرارية لعادة قرائية ألفناها قد تفترض النتيجة قبل السبب، فهل أن عمار مجموعة نصوص متجددة أو أنها نصوص أصبحت من التراث تقرأ ضمن ما كان، أو أنها نصوص استطاعت أن تقرأ المستقبل و تتنبأ لغدر الحياة التي لم تكن منصفة مع الرجل؛ إذ صرح قائلا:« أكتب وأبكي غدر الأيام، تبزغ في الأعين دموع.... و لكن الأيام غدرت بي وبعائلتي هو قدري وقدرك.." إن فعل القراءة درجة من الوعي بالنص، يتوزع بين قراءة تفسيرية و قراءة إسقاطية و قراءة فنية تأويلية، و كل قراءة تليق بمستوى قرائي يروم قيم فنية و جمالية، و تتحدد القراءة بحسب علاقة القارئ بالنص و بحسب معرفته بالنص و بصاحبه، و من ثم فإذا امتلك القارئ معرفة بالنص يتحول إلى وسيط بين النص و متلقيه فيقوم بتفسير النص و ينصب نفسه وصيا عليه إلى درجة أن يدرك قيما فنية و جمالية ربما لم ينبه إليها المبدع نفسه .استطاع ابن جني ، على سبيل المثال ، أن يصل إلى أن في شعر المتنبي الذم بصيغة المدح و قرأ كل قصائد الرجل في كافور الإخشيدي ضمن هذا السياق ، و كان المتنبي كلما سُئل عن شعره أشار إلى ابن جني. و القراءة الإسقاطية قراءة تفترض النتيجة قبل السبب و تسعى إلى توجيه النص ، حتى لو أبى إلى نتائج أعدت له سلفا ، و ثم تتلخص في البحث عن المثال أو النموذج و يتحول النص إلى ما يقتطعه القارئ منه من عبارات ، و قد لا يحتاج إلى أن يقرأ النص أساسا ، بل يعتقد أن له سلطة على النص فوق سلطة المبدع نفسه، و قد تنزلق القراءة الأنثروبولوجية الثقافية، إلى أن تصبح قراءة إسقاطية لما يصبح النص لديها وثيقة أنثروبولوجية ثقافية أو محتوى فكري لا غير. التجربة اللغوية : تتأرجح بنية اللغة في الكتابة لدى عمار بلحسن بين الشعرية و الانسيابية و اليومية و الوظيفية ، فهو مبدع و كاتب و أكاديمي ، استطاع أن يتميز في تجربته اللغوية التي ابتعدت عن الإسقاط الفج . ينطلق هذا المبدع من لحظة يتمكن فيها من القبض على الفكرة و تجسيدها في إحدى المستويات الثلاثة، و كم كان عميقا و بسيطا في الوقت نفسه؛ رجل سكن بوجع الحداثة و التراث ليكتشف عطب حداثتنا المزعومة و يقدم قراءة مميزة لواقعنا التعيس تجسدت في دراسات أكاديمية و نصوص إبداعية مميزة، و بذاك ارتسم لديه مشروع قرائي لهذا الواقع ، و كان هو نفسه مشروع واعد لأكاديمي مبدع تخصص في علم الاجتماع و قصاص متميز تعامل مع اللغة باحترافية مكنته من أن يميز بين مستويات لغوية ، و هو إن كتب في الإطار الأكاديمي فصاحب نظرة تحليلية تعنى بالجزئيات و دقائق الأمور فهو يقول على سبيل المثال:« معلوم أن الفشل في دخول قسم من الإنسانية، و منها المجتمعات الإسلامية في الحداثة، و الاستفادة من مكاسب التقدم و الرفاه الاقتصادي و المالي و الثقافي....و من نافلة القول إن هذه المجتمعات لا تمتلك اليوم ، إلا القليل من أسباب المناعة و القوة المادية و الاقتصادية و التكنولوجية بسبب التخلف التاريخي ، و الاستغلال الاستعماري ، فالعودة إلى التراث الثقافي لها، هو حجة و حج إلى المنابع الأساسية لتشكل هويتها، أي إلى الشريحة الأساسية لحضارة و ثقافة الإنسان المسلم الدين و الرسالة الأصلية، و لا ريب أن هذه العودة غير ممكنة واقعيا و زمنيا، لأن سير التاريخ و العالم قد حوّل و غيّر و شكّل هذه المجتمعات من جديد، بحيث أصبحت دولا و جماعات و شعوبا و إنسانا، يعيش حداثة معطوبة و معاقة." لا شك أن الذي يصل إلى مثل هذه الحقائق قد قرأ التجارب العربية و الإسلامية قراءة تحليلية تقوم على السؤال إثر السؤال لعرض الأسباب و العلل و المعوقات، و مع ذلك قد نتساءل معه، فإذا كانت العودة إلى التراث غير ممكنة ، و أن الدخول في الحداثة معطوب، أ لا يقود إلى أن نستبدل تراث بتراث معتقدين أن الثاني حداثة في حين تعد في موطنها تراثا عفا و درس و ربما انتهى، فنحن إلى حد الآن ما زال الحديث مستمرا منذ الأربعين من القرن الماضي و ما زلنا نتعامل مع شوقي و حافظ إبراهيم و قاسم أمين و محمد عبدو و الأفغاني و غيرهم على أنهم أصحاب مشاريع حضارية، و ما زال منا من يعتقد أن ماركس و لنين و نتشيه و ديكارت و غيرهم هم الحداثة الغربية ، بل أكثر من ذلك أصبح الحديث عن ما بعد الحداثة وارد في المناقشات و الحوارات، و نحن كما قال عمار نعيش حداثة معطوبة إن لم نقل منخورة من الداخل و في العمق؛ استبدال حداثة بتراث و تراث بحداثة مظهريا من دون الوصول إلى حداثة تعبر عن مستوى في التفكير و أداة في الإجراء و تمثل في التجسيد و في المظهر. و ترتقي لغة الكتابة عند عمار لما يصبح أديبا و تتجلى اللغة في أبهى صورها تقوم على الإيحاء و الإشارة و الانزياح و تعدد الدلالة؛ من ذلك ما جاء في قصة"آه تلك النجمة ا " وحيدا كعادتي.. حزينا كعادتي، تغتال توجهاتي أتعاب الأيام الفقيرة، تحاصر أفراحي صيغ العلاقات الباردة، تحبط تألقاتي أشكال الجمل الفارغة.. أقاوم .. أقاوم و أركب سفن الخلق.. تزفني إلى محيطات الإبداع أغاريد حسون و نغمة حزن.. فأتبعها متفردا .. متوحدا.. بي أشواق التكوين و التشكيل و اللعب و اللذات.." و يظهر جليا للعيان أن بنية اللغة ليست واحدة في النصين؛ النص الأول يقوم على لغة تحليلية أكاديمية و النص الثاني يقوم على لغة فنية أدبية تستفيد من قدرة اللغة على الانزياح و الانسيابية و التدفق. إن عمار بلحسن يؤسس لكتابة قصصية تجمع" بين اللغة السردية و اللغة الشعرية فيفتح عوالم التداعي و الانفعال على تسلسل جزئي للأحداث و على الحوار المتقطع " ، و هو بذلك يمارس التجريب على لغة الإبداع ليسمو بالنص نحو دلالات محتملة و متجددة، و من يقرأ هذا المقطع أو القصة كلها ينتبه إلى القبض على لحظة الحدث و محاصرتها بتجاوز المألوف من اللغة و المعتاد منها، و قد يستعمل لذلك أساليب عربية مميزة كالتقديم و التأخير في قوله :« و تدفقت الكلمات من روحي أشعارا.. أواه حبيبتي بدون قطرة ماء هاجرت بحثا عنك.. أرأيت كم هي الساحات مخيفة؟" . إن عمار بلحسن يتقن التلاعب باللغة و ممارسة التجريب ، و هو إن كان في هذه القصة اختار لغة تقترب من لغة الشعر بناء و دلالة و إيحاءً، فإنه في قصة واريس يستثمر اللغة اليومية ليرقيها إلى مستوى اللغة الإبداعية ؛ من ذلك قوله:« ... تقع في دائرة تقاطع تصب فيها كل شوارع المدينة."