بين رحلتَي الشتاء والصيف (جانفي 2021 و جوان 1945) تنقضي ست وسبعون سنة، عاشها الكاتب الجزائري الكبير مرزاق بقطاش مناضلا سياسيا ولغويا وثقافيا وإبداعيا، تاركا وراءه آثارا خالدة من الأعمال الروائية والقصصية والترجمية والصحفية.... لا أزعم أن الراحل كان صديقا حميما؛ فذلك شرف لا أدعيه، لكنني عرفته، أولا، في كتاباته الروائية؛ وخصوصا روايته الأولى " طيور في الظهيرة " عام 1976 التي قرأتها في بدايات دخولي الجامعة ، معجبا بعتبتها الأولى / مقدمة الطاهر وطار لها (والتي خُيل إليّ من خلالها أنه يقيم معاهدة عدم اعتداء مع صديقه اللدود؛ يتقاسمان المكان الروائي بموجبها؛ حيث المدينة والبحر لمرزاق، وما تبقى من القرى والأرياف لوطار!)؛ أنا ابن الريف الذي مازال لم يألف طرائق أهل المدينة في تعاطي الرواية التي ترسختْ في قراءاتي القليلة الأولى ملحمةً ريفية بروليتارية!... أُعجبتُ بمرزاق الذي صعب علي أن أفصله في مخيلتي عن مراد/بطل الرواية.. وقد أيقنتُ مما رأيتُ من خبرته السردية بتفاصيل الفضاء البحري، وبتوكيد مما قرأت عنه في كتابات نقدية لمصايف و واسيني و عامر و ساري... ،أن الرجل قطب من أقطاب (أدب البحر)؛ وأنني يمكن أن أسميه من هذه الزاوية " حنا مينة الرواية الجزائرية" !. .. ثم قرأتُ له من أعماله المتأخرة رواية " دم الغزال "، وهي إلى جانب "خويا دحمان" " يحدث ما لا يحدث"، تقع ضمن ثلاثيته (براري الموت) التي تُفلسف الموتَ انطلاقا من تجربة شخصية (محاولة الاغتيال التي تعرض لها سنة 1993)، وأخرى وطنية (اغتيال الرئيس محمد بوضياف سنة 1992)،والواصل بين التجربتين هو نضاله السياسي المرير ضمن المجلس الوطني الاستشاري الانتقالي (CCN) الإشكالي الذي أنشأه الرئيس المغدور به، وعيّنه عضوا فيه ضمن أعضائه الستين الذين أهدرت دماؤهم جميعا (ومنهم كتاب كبار معروفون كعبد الحميد بن هدوقة ومصطفى الأشرف و الهادي فليسي و زينب الأعوج.. فضلا عن نضالات أخرى في المجالس العليا للإعلام، وللتربية، و للغة العربية،...ناهيك عن مهنته الصحفية الأولى التي استهلها في مستهل الاستقلال. وإضافة إلى جهوده الترجمية الكبيرة (كترجمته لبعض روايات رشيد بوجدرة)؛ وهو خريج قسم الترجمة سنة 1969. تعرفتُ إلى مرزاق بقطاش معرفة شخصية (أزعم أنها عميقة) في مارس 2010؛ ذات رحلة جوية فاخرة (على الخطوط القطرية، درجة أولى) إلى أبوظبي، مرورا بالدوحة، قبل محنة الفتنة الخليجية الكبرى!..كان ثالثنا صديقنا الكبير د. أحمد منور الذي استسلم للنوم وتركنا نخوض في كل شيء...تحدثنا طويلا، قبل أن أتعمد الاستئثار بحصة الأسد من الكلام، في باقي زمن الرحلة، رأفة بحباله الصوتية وأنا أراه يكابد بُحّته العسيرة التي تركَتْها فيه رصاصة الغدر! أذكر أننا تحدثنا طويلا، على هامش مقال جميل له في "صوت الأحرار"، عن أستاذه الكاتب الجزائري العظيم الصديق سعدي (1907 / 1970)، المجهول عند عموم الجزائريين، و المشهور في الجامعة المصرية منذ نهاية الثلاثينيات، والذي حيّر العلّامة الفيلسوف الشهير منصور فهمي (أستاذ طه حسين) بفرط ذكائه ونباهته! ، وقد روى لي مرزاق كيف تأثر بأستاذه الذي امتلك ناصية العربية وأتقن الإنجليزية واللاتينية واليونانية، فضلا عن الفرنسية التي درّسها طويلا في الثانويات المصرية قبل عودته إلى الجزائر مطلع الاستقلال، وكيف كان يستعذب حديثه عن منهجه في بدايات تعلمه الإنجليزية مع صديقه الشاعر المسرحي الكبير علي أحمد باكثير... . ومما أذكره في تلك الأحاديث الممتعة أنني قلت له : أتدري يا مرزاق أنني أعرف عنك ما لا يعرفه الآخرون؟! ، فنظر إلي مبتسما مندهشا! ،لم أشأ أن يطول اندهاشه فأردفت قائلا : أعرف مرزاق بقطاش الشاعر! ،فازدادت دهشته ،لدرايته بقلة أشعاره، وربما بساطتها أيضا، ولأنه نشر أغلبها في تواريخ سابقة لتاريخ ميلادي أصلا!..لكن دهشته سرعان ما زالت حين أوضحتُ له أن حبي لتاريخ الأدب الجزائري، ومعه عشقي للأرشيف هو ما أتاح لي أن أقرأ له قصائد منشورة في (الشعب) أيام الستينيات، وأخرى في (المجاهد الأسبوعي) أيام السبعينيات.