حدث للكاتب لوكيوس أبوليوس، 125 م 180 ميلادية، ما حدث للكسكسي الذي أثار، قبل سنة خلت، جدالا بين بعض النخب المغاربية التي أرادت الاستحواذ عليه باستعمال الأرجل والأظافر لينتسب إليها طوعا أو كرها، متخلية عن كلّ الانشغالات الثقافية والفكرية للأمة ومتاعبها الحقيقية، بعيدا عن منطق المعي والسفاسف العابرة التي أصبحت تلهي الكتّاب والأكاديميين عن الانشغالات الكبرى، أو كما حصل مع القديس أغسطين الذي ذهب ضحية هذا وذاك، قبل أن ينقل رفاته لاحقا إلى مدينة بافيا الايطالية عبر سردينيا، وقد زرته هناك قبل أعوام لرؤية ما تمّ نقله من آثار الفاطميين لتزيين الكنيسة، وهم يحتفلون به احتفالا باذخا مرة في السنة ويقولون إنه منّا. يجب التذكير بأن جاك ديريدا ولد في الجزائر وقضى فيها فترة، وبقي فرنسيا، في حين حمل المترجم مارسيل بوا الجنسية الجزائرية وقال إني من هنا، كما فعل المصور روني فوتيي وموريس أودان والناقدة كريستيان شولي عاشور والدكتورة ليلى روزلين، أستاذة الأدب الشعبي في الجامعة المركزية التي قدمت كثيرا للبلد ولم تتخل عنه حتى في العشرية الحمراء بطلب من الأساتذة والمقربين منها، ما لم يفعله كثير من الجزائريين الذين فروا إلى فرنسا بحثا عن الأمن والسكينة، وهناك أسماء كثيرة شاركت في الثورة التحريرية وفي البناء الوطني وغدت جزء من البلد. لقد أسهمت مواقفهم ودفاعهم عن الجزائر في جعلهم جزائريين، وهذه ركيزة مهمة. أمّا أبوليوس، الكاتب والشاعر الغنائي والمسرحي والخطيب النوميدي والروائي وعالم الطبيعة فقد ولد في مداوروش، هناك في سوق أهراس بشرق الجزائر، وكان يسمي نفسه، في كثير من المخطوطات التي خلّفها: أبوليوس المادوري الأفلاطوني، والفيلسوف الأفلاطوني، وقد اعتزل الحياة في 1964، دون أن تُعرف نهايته الحقيقية، ما عدا ما ورد في بعض الآراءوالتخمينات. في هذا العمر القصير سافر وتعلم، وأنتج مجموعة من الهالات قبل أن يبلغ الأربعين. وقد اشتهر، حسب ما يشير إليه النقاد والمؤرخون، برواية " الحمار الذهبي"، أو التحوّلات، العمل الأدبي الخالد،وأول رواية مكتملة تعرفها البشرية قاطبة، بالعودة إلى التقييس الغربي المهيمن على نظرية الأدب، مع أننا قد نجد فيها بعض أطراس التجارب السابقة، كالمسخ والسحر والشعوذة، الظواهر التي عرفت في بعض الملاحم والأساطير القديمة في العهدين اليوناني والروماني، وفي الحضارة الحثية مع ملحمة جلجامش في القرن الرابع قبل الميلاد. ستؤثر هذه الرواية لاحقا، وبشكل لافت، في بعض الآداب الغربية المكرسة، ومنها رواية المسخ للكاتب فرانز كافكا. ترجم هذا النص الاستثنائي، بالنظر إلى اكتماله الفني والبنائي، إلى العربية ثلاث مرات مختلفة، ومتفاوتة اللغة والأساليب: علي فهمي خشيم في ليبيا سنة 1980 عن الانجليزية، ثم نقله إلى العربية المترجم التونسي عمار الجلاصي عام 2000 عن اللاتينية، وكانت آخر ترجمة للجزائري الدكتور أبو العيد دودو في 2001 عن الفرنسية، مع أن المترجم صرّح لي، أثناء صدور الترجمة في منشورات الاختلاف بالعاصمة،بشيء آخر غير الذي يتمّ تداوله إعلاميا، بانتظار التأكد مما يسوّق حاليا، دون بينة من الأمر . عاش هذا الكاتب متجولا ما بين مداوروش وروما وآسيا الوسطى والمشرق والإسكندرية وقرطاج، قبل أن يستقر في طرابلس لممارسة الطب. كان ذلك في الفترة الممتدة ما بين 143، و 150، وكان يعرف، إلى جانب لغته اللوبية، اللغة القرطاجية، لكنه ظل يكتب ويخطب باليونانية واللاتينية، ولم يشر إلى الأمازيغية بكلمة واحدة في مدوّناته، كما نستنتج من قوله: "إني أنهض بالأمر كله، على السواء، باللسان الاغريقي أو اللاتيني، بنفس الاقبال والوثوق، وبنفس الجد، وبنفس الطراز والأسلوب". ما يؤكد، دون أيّ عناء، أنه لم يستعمل سوى لغتين اثنتين، لا ثالثة لهما، ما عدا إن لم يشر إلى ذلك، مع أننا لا نجد أيّ حضور للغة أخرى في كلّ ما أنتجه في مدة قصيرة، وفي ما تمّ تداوله عالميا من كتب ومخطوطات أصلية، أو مترجمة إلى عدة لغات مكرسة. لقد عرف أبوليوس بموهبة مركبة ناتجة عن تجواله وسعة اطلاعه على المعارف الكونية المختلفة، لذا قال بنوع من الاعتزاز بنفسه: "أمبيدوقل ينظم القصائد، وأفلاطون يصنف المحاورات، وسقراط يضع الأناشيد، وأبيكاروس يصنف مشاهد التمثيل الايمائي، وكسينوفون يؤلف القصص التاريخية، وغراتس يصنع الأهاجي، أما صاحبكم أبوليوس، فهو يجمع كلّ هذه الأصناف ويتعامل مع ربّات الفنون التسع". الرواية ليست ملهاة، ولا علاقة لها بها، كما تمّ تداوله في بعض الكتب والدراسات النقدية التي لم تستوعب أبعادها الفعلية لتحكم عليها، ولم تستطع تصنيفها تصنيفا دقيقا، مع أنها واضحة. إنها أقرب إلى المأساة التي تنتقد غباء البشر وقسوتهم وبطشهم وبؤسهم، وتصدع الروح في ظلّ تشيؤ المجتمعات التي تخلت عن القيم والفضيلة البشرية، ما يعكسه عذاب البطل الذي تعرض إلى المسخ وعرف، كحمار، كل أشكال التعذيب الجسدي والنفسي والروحي، قبل أن تعيده المصرية إيزيس، إلهة الجمال والخصوبة، إلى طبيعته الأولى كإنسان يتمتع بالحرية. كان على المعنيين بالدراسات الأكاديمية الاهتمام بهذه التحفة التي سبقت وقتها بقرون باستحداث تقنيات روائية جديدة، أن يطرحوا أسئلة سردية وأنثروبولجية وفلسفية وتأصيلية تتعلق بتاريخ الرواية وزادها المعرفي، بمرجعيات النص، بما كتبه بعض النقاد في الغرب، ومنهم لوكاتشوغولدمانوألبيريس، وغيرهم ممن بأروا على الرواية وخصوصياتها وتقنياتها ونشأتها، دون الاشارة، في كثير من الأحيان، إلى الحمار الذهبي، الرواية التي ظهرت خارج العالم الغربي ومركزياته الضاغطة. الجدل الدائر حاليا ما بين الجزائروتونس من أجل تبيئة أبوليوس، بين مداوروش وقرطاج، سيؤدي إلى طريق مسدود لأنه لم يبن على أسئلة واضحة المعالم، ضابطة ومحددة للنقاش الذي يستمد قوته من أثاث قاعدي مقنع: على أيّ شيء نؤسس للحكم على انتماء الكاتب ومنجزه؟ على بلد المنشأ، أم على لغة الكتابة التي اختارها للتواصل مع الآخر، أم على الموضوعات السردية وتوجهاتها الاجتماعية، أم على القناعات الدينية؟ أم على الرؤى المخصوصة، أم على البلد الذي استقر فيه لوقت معين؟ ولماذا؟ ثمّ لماذا نرغب في حصره جغرافيا بعد قرون من رحيله؟ لغرض ثقافي أم سياسي أم عرقي أم ذاتي؟ لقد احتار المثقفون والأدباء الجزائريون مع ألبير كامو الذي ولد في الجزائر وعاش فيها وكتب فيها أغلب نصوصه العالمية الشهيرة، ومنها الطاعون وأعراس والغريب، لكن بعض الجمل والمواقف من البلد جعلت الآراء متباينة بخصوص هويته، ومتناقضة، ومنها وقوفه إلى جانب أمه فرنسا تجاه القضية الجزائرية أثناء الاحتلال، أو الاكتفاء بوصف المظاهر الطبيعية للبلد، دون الانسان المقهور من قبل الاستعمار، أو النظر إلى "العربي" باستخفاف في رواية الغريب حيث بدا باهتا جدا. ألبير كامو ظل موضوع خلافات لا حلّ لها لأنها لم تحدد المقاييس الكفيلة بتصنيفه، بمنحه الجنسية أم لا، هل هو فرنسي الثقافة والموقف والديانة، أم أنه جزائري بحكم النشأة، دون التطرق إلى لغة الكتابة كإشكال مركزي لا يزال مطروحا. أبوليوس عرف الخلاف ذاته، دون معرفة نصوصه حتى، أمّا إن لم تتم الاجابة عن الأسئلة المطروحة، بعقلانية وموضوعية، فإننا نظل نراوح في الدائرة المغلقة نفسها، كما حصل في وقت سابق مع ابن خلدون الذي عاش جزء من حياته في مدينة بجايةبالجزائر كشخصية نافذة، وكتب جزء من المقدمة في ولاية تيارت، في قلعة بني سلامة، قريبا من مدينة فرندة العتيقة، قبل أن ينتقل إلى تونس لإكمال مؤلفه الشهير. هل الفترة التي قضاها في الجزائر كافية لاعتباره جزائريا؟ أم إن هناك ضوابط أخرى وجب الاحتكام إليها لمعرفة جنسيته، خارج مكان إقامته؟ لقد نجا حمار الحكيم من الخلافات والمحاكمات ، كما نجا حمار أحمد رضا حوحو من قبضة التصنيف العنيف الذي يمارسه بعض المنتسبين إلى الأدب والثقافة، في حين، ولسوء الحظ، تغرب الحمار الذهبي لأبوليوس وتاه بين المثقفين والأكاديميين والدهماء والغوغاء بسبب الرغبة في احتكاره جغرافيا، ومن ثمّ توطينه، دون الرجوع إلى ما يجب الرجوع إليه من أجل معرفة انتمائه، وربما لم نكن بحاجة إلى ذلك كمغاربيين كان عليهم الاهتمام بمنجزه ككاتب نوميدي ولد في بلد، وعاش متنقلا بين البلدان، لا غير. إنه لمن العبث التمادي في نقاش غير مؤسس عقلانيا، ولا علاقة له بمجموع الضوابط التي وجب توفرها للحكم عليه. أمّا الشوفينية فليست سوى نفي للجانب الأكاديمي، على قيمته الكبرى، وتغليب العاطفة على البحث، وذاك ما يحدث حاليا في ظل غياب العقل وتبوأ العصبية المدمرة.