المسيرة الأدبية للكاتب الجزائري محمد ديب حافلة بالإبداع الفني والإنتاج الأدبي،إذ عايش جميع المراحل التاريخية و للجزائر المعاصرة، ذلكم منذ سنة ميلاده في بداية العشرينيات إلى حدود تاريخ وفاته سنة 2003. فلم يتوقف خلال مسيرته عن الكتابة و الإبداع التي دشنها مع منتصف الأربعينيات من القرن الماضي بنشر أولى محاولاته الشعرية، ثم انتقاله إلى الكتابة الروائية في الخمسينيات واستمراره على هذا النهج طيلة حياته، فكان بذلك صوتا متميزا في الحياة الأدبية والثقافية للجزائر في فترة الاستعمار وفي الفترات اللاحقة للاستقلال. والجدير بالذكر أن محمد ديب يعد أحد أبرز الأقطاب الأدبية لجيل الخمسينيات، الذي يضم كل من كاتب ياسين ومولود معمري ومولود فرعون. فقد برز هؤلاء بكتاباتهم الأدبية ليعلنوا عن مرحلة جديدة في نضال الجزائريين من أجل الحرية والانعتاق من قسوة الاستعمار، فتعلموا اللغة الفرنسية و جعلوا منها سلاحا للدفاع عن وطنهم و عن هويتهم. كانت كتاباتهم بمثابة "استعادة للكلمة" التي حُرم منها الشعب الجزائري و بمثابة تتويج لصراع مرير مع الطروحات الكولونيالية التي سعت بكل ما تملك من قوة إلى طمس الهوية الوطنية. كما تعبر هذه الكتابة عن التصورات الجديدة لجيل من الأدباء الذي وقف ضد الأدب الكولونياني لكل من "لويس برتراند" و "روبير راندو" و "لويس لوكوك" وغيرهم من ذوي النظرة المختزلة للسكان الأصليين ضمن صور غرائبية و نظرة عنصرية ، الهدف من ذلك جعل من أرض الجزائر عبارة عن ملحقة الميتروبول. وفي هذا السياق تبنى جيل الخمسينيات الخطاب السياسي للحركة الوطنية التي تأسست في العشرينيات من القرن الماضي. و بناء على ذلك شكلت كتاباتهم كذلك، قطيعة أدبية وأيديولوجية مع نصوص أنتجها جزائريون فيما بين الحرب العالمية الأولى والثانية، إذ جاءت هذه النصوص غامضة في مقاربتها لهوية السكان الأصليين و لواقعهم، بما تتميز به من مثاقفة و لما تشتمل عليه من رغبة في الاندماج، و هي بذلك كانت قريبة من الأدب الكولونيالي لكتاب فرنسيين. كان أصحاب هذه الكتابات يعتقدون في صدق "المهمة الحضارية" للاستعمار الفرنسي في الجزائر، وحتى و إن كان الخطاب الأيديولوجي لهذه الكتابات يتميز بنوع من الاحتجاج المحتشم ضد الطروحات الكولونيالية، إلا أن إبداعاتهم طبعت بسمة الاغتراب. كان هدف آنذاك الإدارة الاستعمارية التأسيس لنخبة تابعة لها من خلال عملية المثاقفة وأيضا التعليم القسري للغة الفرنسية، ويمكن أن نذكر من هؤلاء الأدباء الذين سقطوا في فخ الاغتراب السياسي والثقافي، كل من شكري خوجة وعبد القادر حاج حمو ، و رباح زناتي ومحمد بن شريف وغيرهم. و من هنا أهمية كتابات محمد ديب وأقرأنه، الذين برزوا في مرحلة الخمسينيات، وشكلت قطيعة مزدوجة مع الأدب الكولونيالي والأدب الذي تم نشره في العشرينيات من قبل أقلام جزائرية. برزت القطيعة السياسية والفكرية بشكل جذري و واضح لدى النخبة الوطنية بعد مجازر 8 ماي 1945 بمديني سطيف وخراطة، التي كانت بمثابة صدمة قوية للوعي السياسي الجمعي للجزائريين، جعلتهم يعيدون النظر بصفة صارخة ومكشوفة في واقعهم و في علاقتهم مع الوضع الكولونيالي. فأتت هذه النصوص الروائية لتصبح "لسان حال" المظلومين، وحتى وإن كانت لا تختلف عن الكتابة الروائية الغربية من حيث تقنية الكتابة والواقعية الاجتماعية و السرد الخطي ورسم الشخصيات النموذجية والانتصار لأطروحة فكرية، إلا أن تميزها عن الكتابات الأخرى يكمن في الخطاب الأيديولوجي الذي يناقض بقوة الخطاب الاستعماري المهيمن. فكانت رواية "الدروب الوعرة" لمولود فرعون(1957) و رواية "الربوة المنسية" لمولود معمري و رواية "نجمة لكاتب ياسين (1956)... و هي النصوص التي أسست لصوت جديد و مختلف في الحقل الثقافي الجزائري في تلك الفترة. الواقعية والالتزام السياسي بقضايا الشعب : كانت كتابات محمد ديب وبخاصة في ثلاثيته "الدار الكبرى" (1952) و "الحريق " (1954) و رواية "النول" لمحمد ديب تعبر بقوة عن احتجاج الروائي على الاستغلال والاحتقار و الظلم الذي كان تمارسه الإدارة الاستعمارية على الشعب الجزائري، كما أشارت إلى بداية انبلاج الوعي السياسي للسكان الأصليين.و في هذا السياق السياسي والأيديولوجي الحاد و المتأزم يتبنى محمد ديب هذه النظرة الأدبية التي تجد منابعها في قراءاته المتنوعة للأدب الواقعي وفي مخالطته للفئات الشعبية المختلفة وامتهانه للعديد من الحرف التقليدية والمهن المتواضعة في مدينة تلمسان، المعروفة بعمقها الحضاري العربي و الإسلامي. تميزت الأوضاع الاجتماعية التي كان يعيشها الجزائريون آنذاك بالفقر والجوع و الحرمان والتعسف الإداري و الظلم الاجتماعي والعنصرية، فجعل صاحب رواية "الحريق" من هذه الأوضاع مادة خصبة لكتابته التي انتهجت نهج الواقعية والالتزام السياسي بقضايا الشعب عموما والفئات المحرومة منه على وجه الخصوص. قام صاحب "الدار الكبرى" هذه المرحلة بنقل صورة مختلفة لأولئك "الأهالي"، و هي مغايرة تماما لتلك الصورة التي صنعها لهم الأدب الكولونيالي و أيديولوجيوه، أي صورة المتوحش، البعيد عن الحضارة و التحضر. و كان لا بد على الأديب أن يقوم بتصحيح تلك الصورة و إبراز الفئات الشعبية الفقيرة في فضاءاتها المعتادة و في يومياتها القاسية وفي إنسانيتها الجوهرية. فكانت "دار سبيطار" بمدينة تلمسان مسرحا يرحل من خلاله القارئ إلى العالم اليومي لهذه الفئات الشعبية الفقيرة و المهمشة.كما يبرز محمد ديب معاناة الجزائريين مع الفقر والبؤس في الأربعينيات من القرن الماضي في روايته "النول". ثم ينتقل في روايته "الحريق" إلى الريف ليرسم لنا يوميات فلاحي "قرية بني بوبلان" ونضالاتهم ضد القهر والاستغلال، و ضمن سرده ليوميات الفلاحين يشير إلى النضال السياسي للوطنيين ومنهم نضال المثقف الملتزم حميد السراج. ويجعل المتابع لأحداث الرواية يتعرف على هذه المرحلة القاسية و المضطربة التي يعيشها الشاب عمر بكل جوارحه، و حيث يعلن نص "الحريق" بشكل مسبق و تتنبأ بالثورة التحريرية التي كانت بمثابة حريق لكل رموز الاستعمار ولكل معالم الاستعباد ، إذ ثار الفلاحون و أشعلوا النار في كل شيء، وهي يقظة لوعي سياسي كبير و هي بداية لثورة قادمة. و لا يخلو النص من الإشارات الثقافية و اللغوية التي تميز المحيط المحلي والثقافة الأصيلة لسكان مدينة تلمسان وضواحيها. و لهذا يجد القارئ وبخاصة ذلك الذي لا يملك مفاتيح الثقافة المحلية في حيرة من أمره أمام السيل الجارف للكلمات والعبارات والأمثال الشعبية المنطوقة في اللغة المحلية و هي كثيرة، وقد نقلها الروائي إلى اللغة الفرنسية،وضمنها كتاباته المختلفة. وتم نشر هذه النصوص الثلاث في دار "لوساي" الباريسية التي تعاطف مسيروها مع القضية الجزائرية ، وحظيت هذه النصوص بدعم كبير من قبل مثقفين فرنسيين كبار من أمثال "لويس أراقون" و "اندريه مارلو"، هذا بالرغم من تحفظ المؤسسة النقدية الفرنسية تجاهها. و بسبب الملاحقات الأمنية ينتقل محمد ديب إلى باريس سنة 1959 و يبتعد عن وطنه ، لكنه يظل مرتبطا بأرض أجداده و بهموم شعبة وقد كان يعود إلى الجزائر كلما توفرت المناسبة بعد نهاية الاستعمار. محمد ديب ومرحلة الهجرة بعد المرحلة الواقعية يتحول الأديب إلى مرحلة ثانية، حيث يختلط الواقعي بالسحري وبالعجائبي، فكانت رواية "من يتذكر البحر" (1962) ، لتعلن عن مرحلة أدبية أخرى في مسيرة محمد ديب، فتحت أمامه إشكالية الكتابة الحديثة القائمة على تجريب الأشكال الجديدة التي تتداخل فيها الأسئلة الوجودية بالمجاز. وبطبيعة الحال تعود بقوة الحرب المدمرة التي عاشها الجزائريون موضوعا أساسيا في هذه الرواية التي صدرت مع سنة الاستقلال، ثم فيما بعد ينشر رواية "مجرى الضفة المتوحشة" (1964) ، والنص يتعمق أكثر في الجوانب الظاهرة للأشياء، ويقارب أفعال الشخصيات بغية الكشف عن العمق، وبالاعتماد على تشظي كبير للزمن وللفضاء الروائيين ضمن بحث مجنون ومحموم عن المعنى وعن تصوراته وتمثلاته المختلفة لدى الناس. يعود محمد ديب مرة أخرى إلى الكتابة الواقعية، لكن في شكل جديد ومتجدد من خلال مجموعة من النصوص "رقصة الملك"(1968) و "الإله في منطقة متوحشة" (1970) و«معلم الصيد"،وإن كانت الرواية الأولى من هذه المجموعة تروي المرارة التي سيطرت على المحاربين والخيبة التي سيطرت على قلوبهم بعد نهاية حرب التحرير وشعور بالانكسار من جراء الانحرافات التي عرفتها الثورة التحريرية في أيامها الأخيرة، ومع بداية الاستقلال. والواضح أن هذا الوضع المضطرب لم يمنع الكاتب من طرح الأسئلة حول الحلول الواجب اتخاذها بهدف تبني مشروع اجتماعي وسياسي يكفل للجزائريين العيش بكرامة والتمتع بما أنجزوه من انتصارات على المستعمرين الذين سلبوا منهم كل شيء وسلبوا منهم الكرامة في الروايتين الثانية والثالثة،وهي بداية القطيعة مع الأيديولوجية المهيمنة والممارسات السياسية التي ميزت الجزائر في الستينيات، وتعقب مرحلة ثالثة تسميها المتخصصة في أدب محمد ديب، الأستاذة نجاة خدة ب«مرحلة الهجرة"، و يبرز ذلك في البداية من خلال رواية "هابيل" (1977) و هكذا تنتقل الأحداث من الجزائر إلى مدينة باريس ثم إلى بلدان أوروبا الشمالية من خلال ثلاثية الشمال بروايات "أرصفة أورسول" (1985) و«إغفاءة حواء" (1989) و«ثلوج من رخام" (1990). و تتوافق كتابة هذه النصوص مع إقامته بدولة فنلندا ،حيث تختلط الذكريات بالهوية وتتداخل النصوص الثلاث و تبرز حالة من القلق والمأساة في حوارية ثقافية ولغوية كبيرة. ففي هذا المحيط الثقافي الغريب والمختلف تماما عما عايشه الأديب في وطنه فيما قبل الثورة التحريرية وما عرفه من أجواء ثقافية في مدينة باريس الفرنسية، الأمر الذي جعل "ثلاثية الشمال" حافلة بالتناص مع كتابات عدة (غرائبية كافكا وعجائبية جوليان قراك، وغيرهما)، وبالتداخل الثقافي مع عوالم ثقافية و فكرية.. فالرواية الأولى "أرصفة أورسول" ترحل بالقارئ في عالم الراوي "عائد" الذي ينتقل من المدينة التي عرفت ميلاده و شبابه، تاركا منصبه التعليمي بالجامعة بهدف أداء مهمة نبيلة في مدينة جاربير البعيدة جدا، مما دفعه إلى فقدان علاقته بعالمه القديم شيئا فشيئا، وهو المريض والمطلق من زوجته. وتنخرط الرواية الثانية "إغفاءة حواء" في المسار نفسه ، حيث تعتقد "فاينة" أنها تعشق "صلح" لكنها الذئب الذي يأتيها في ليلة ظلماء هو معشوقها الحقيقي، وأمام هذا الوضع الغامض تدخل "فاينة" في عالم المس و الجنون ثم الحجر في المستشفى الأمراض العقلية. أما روايته الثالثة "ثلوج من رخام" فإنها تطرح إشكالية الزواج المختلط بين رجل من الجنوب و امرأة من الشمال تفصل بينهما الغابات والسموات و الثلوج. ويعيش الرجل غربة حقيقية وبخاصة بعد فراقه لابنته "لييل" التي تأخذ منه، فيعيش إثر ذلك قسوة الفصل ومعاناة الشوق. فيملأ قلبه الحنين إلى الحياة الأولى، وكأن به يقف على الأطلال مثل الشعراء السابقين، بسبب أن هجرته هذه هي بطبيعة الحال حركة في الفضاء الجغرافي وانتقال من مكان لآخر، الأمر الذي يفرض بقوة مسألة أخرى، تتمثل في الزمن والانفصام بين الحاضر الذي يعيشه و الماضي الذي يحن إليه و بين المستقبل حيث العودة مستحيلة أو مؤجلة دائما. وعليه يطرح الروائي مجموعة من العناصر الفكرية في ثلاثيته هذه و تتمثل في علاقة الشخصية بالصحراء و بالعلامة و بالهجرة وبالبحث عن الأب وعن رمزية قتله، وتسكنه هذه العناصر الأربعة وتبرز هاجسا قويا في عالم الهجرة الجديد الذي أقام به وهو يحمل معه خلفيته الثقافية أومخياله الخاص به، وتطرح أيضا هذه النصوص الثلاثة مسائل مثل الهوية والاسم ولغة البلد الأصلي والانتماء الديني في إشارة واضحة إلى الأنبياء عليهم السلام وإلى القرآن الكريم و إلى التصوف و إلى الغيرية ومكانة المهاجر أو الغريب في وطن ليس وطنه ومنها العودة المستحيلة إلى أرض الوطن ثم التبادل والتحاور بين الثقافات. و بعد هذه الرحلة في دولة فليندا يعود الروائي إلى مدينة باريس ليستقر بها من جديد، و هو موزع بين وطنه الجريح و بخاصة خلال فترة التسعينيات وغربته القاسية التي لم تثنه على الكتابة و الإبداع و مواصلة مشروعه إلى أن بلغ النهاية المحتومة.