لم يعد ممكنا في ظلّ التشنج الذي يميز الساحة الأدبية القيام بمقاربة نقدية عارفة بجوهر الفن وبلاغة القول، ويجب الاعتراف بأنّ ممارسة النقد الأكاديمي لم تعد مهمة، وذلك بالنظر إلى الحساسية المفرطة للكتّاب الذين أصبحوا يؤلفون مقدسات، وذاك يعني أننا بلغنا أعلى مراتب الكمال، ولا يمكن العثور في منجزنا على مثقال ذرّة من الفجوات، في حين أنّنا نسمح لأنفسنا بانتقاد الكتب المنزلة. عادة ما هذه النصوص بالأنظمة الشمولية، مثلها مثل النصوص السابقة التي ظلت تتعامل مع المقاربة النقدية باستعلاء، خاصة إذا كانت هذه القراءات عارفة، ومؤهلة للتفكيك والاستنتاج. إبداعاتنا الحداثية تريد أن يصفق لها النقد، حتى عندما لا تبذل جهدا لترقية نفسها. لقد قال هنري ميللر، وهو يملي آخر رواياته: "الآن بدأت أتعلم معنى الكتابة "، قال ذلك بعد تجربة طويلة وقد تجاوز السبعين، وهي تجربة قوّضت السرد العالمي. أمّا الكاتب الروسي تشيخوف فظل يتساءل عن أسباب إعجاب القراء بنصوصه التي لا تعجبه. إننا لا ننكر المستوى الذي بلغته بعض نصوصنا. غير أنّ ذلك لا يبرّر السلوك العدائي تجاه النقد، رغم ادعائنا باحترام القارئ، في حين أنّنا لسنا مؤهلين فكريا وحضاريا لقبول ما لا يصبّ في توجهنا، ثمّ إنه من الضروري إعادة النظر في فهمنا للحداثة، كما هي متواترة في الخطابات والمقالات التي تبني على الثالوث المحرّم كموضة مستهلكة. لم تظهر الحداثة في الغرب إلاّ مقترنة بمسببات تاريخية ومعرفية ودينية وفلسفية، بدليل أنّها ارتبطت بمحاولة تجاوز طروحات الكنيسة. الكلمة تعبر عن التوجه الجديد في الفكر الكاثوليكي الذي سعى إلى إعادة قراءة تعاليم الكنيسة، وكان يطلق على هذا المنحى مصطلح التجديدية، وهناك علل لظهور هذه النزعة التي لم تقترن بالأدب في بداياتها. أمّا إذا ابتعدنا عن الموروثات فإننا نعثر لها على مفهوم عند قسطنطين كايزل، وتعني طابع الجدّة في الحقول الفنية، لكنه يضع مجموعة من الضوابط، كما ورد في قاموس لوروبير: "إنّ الأمر يتعلق باستخراج من الصيغة ما هو شاعري في التاريخي، بالتمييز ما بين الخالد والطارئ"، وهي فكرة تتقاطع مع ما ورد في بعض الطرح الفلسفي: عبقرية الذات. هناك الشاعري والتاريخي، الخالد والطارئ. لقد سعت الأعمال الكلاسيكية إلى تحقيق ديمومتها، كما الكتابات العربية، من العصر الجاهلي إلى الآن، بل إنّ عدة نصوص قديمة فهمت جوهر التحديث، ومنها الكتابة الصوفية، الشيء الذي لم تدركه الابداعات الجديدة. سنستنتج، إن نحن رجعنا إلى التعريف السابق، بأن المفهوم له علاقة بالخالد والعارض، لذا قد تصبح النصوص الاستهلاكية طارئة، في حين أنّ الأعمال الخالدة تأتي في خانة الحداثة. أمّا الانجليز فقد ربطوها بالأسلوب، مؤسسين على طبيعة الفن القوطي المعروف بالمنحنيات الطبيعية المستوحاة من نباتات البلد، وقد ظهرت الكلمة مع مطلع القرن العشرين، دون جعجعة لفظية. أمّا إذا عدنا إلى أصول المصطلح فجدناها في المعجم اللاتيني الذي أخذت منه الكلمة الفرنسية، ويقصد به ما له قوّة تعبيرية مميزة، تعارض به القديم في أطر عارفة، وتدخل في هذا الإطار عدة فنون لغوية وغير لغوية: التكعيبية والدادائية والجماليات البنائية التي ظهرت في العشرينيات لتحلّ محلّ النحت التقليدي، إضافة إلى اللغة المسلسلة التي تعتمد نظام الاثني عشر صوتا. يمكننا ربط الحداثة الأوروبية بحقبة مخصوصة. لقد استغرق الصراع ما بين القدامى والمحدثين نصف قرن من الجدل، من نهاية القرن السادس عشر إلى مطلع القرن السابع عشر، وذلك بسبب رغبة الفرنسيين والإنجليز في نشر وعي جديد والعمل على النهوض بالآداب المحلية بالتخلي عن محاكاة الأدبين اللاتيني واليوناني بعد ان تسببت القواعد الموروثة في حبس العبقرية الفردية. غير أنّ الرؤية المضادة قد تعود إلى " دي ماري دي سان سورلان " الذي انتقد الملاحم اليونانية والرومانية بسبب حمولتها الوثنية التي لا تنسجم وتوجهات العصر، وقد مدح معاصريه الذين "يتمتعون بنور الحضارة والمسيحية"، والحال أنّ الحداثة كانت محصورة في منطق ديني، أي أنّها قامت على قناعات غير أدبية، وكان قوامها النزاع العقائدي الذي خلق صراعا ما بين الوثنية والمسيحية، وهو المشهد نفسه الذي طغى على الصدام بين النزعة الكاثوليكية القديمة والتوجه الكاثوليكي الجديد المبني على الفلسفة، أو ما سيعرف بالتيار الحداثي. لقد ظلّت الحداثة حبيسة الصدامات الدينية، قبل أن تنتقل إلى الابداع، ما يعني أنّ رهاناتها البدئية كانت تتمثل في مساءلة الدين، وفي استبدال ممارسات عقائدية بأخرى أكثر انسجاما مع الذات. لذا يجب الفصل بين أنواع المحفزات التي أنتجتها، ما بين الأدبي وغير الأدبي، ما بين الديني والجمالي. لقد ولدت الحداثة بزاد يؤهلها إلى مساءلة الموروث والفكر والممارسات الحياتية، وإذ تراجع الماضي والحاضر فإنّها تفعل ذلك بوعي، وبحمولة معرفية وفلسفية، معتمدة على النمو الحلقي. في حين ينطلق أغلب الحداثيين العرب من رؤى الآخرين. وإذا كان بعضهم يدرك مفهوم الكلمة ويسعى إلى تثوير الكتابة بقراءة المنجز وتجاوزه، إبداعا وفلسفة وبلاغة و لغة وفكرا، فإنّ البعض الآخر يتصور أنّ الحداثة هي القدرة على نقد الثالوث المحرّم، ومن هنا تواتر هذه الموضوعات، مع انها رؤى غيرية قديمة، في حين أكدت الحداثة الغربية نفسها على الخصوصية، وهو الطرح الذي نجده عند غوته، وعند كبار الكتاب الذين اخترقوا الحدود القومية واللسانية بالابتكار، وليس بالتقليد. حداثتنا تصدر بعيون مختطفة، ومن منطلقات وافدة تهمل القارئ، وتلك مشكلة، وتكمن المشكلة الثانية في تجاوز المعيار الصنمي واستبداله بمعيار مماثل، وفي الحالتين هناك معيارية ما، أمّا الثانية فأكثر ضررا إن عملت على إلغاء الذات بمحاكاة ساذجة، وتتلخص المشكلة الثالثة في الهرولة إلى تقليد الأشكال، مع أنّ للأشكال عللا، وهي ليست موضة مفرغة من الدلالات. ثمة دائما معنى ومرجعية. من المتعذر الحديث عن أنظمة من العلامات الاعتباطية. كلّ العلامات والأبنية تشتغل في إطار نسقي إن قام العمل على صناعة متقنة، وما أكثر "الصناعات" في حداثتنا التي أصبحت ذيلا للجهد المستورد. لقد قتلت أغلب الأماكن والأشياء والأعراف، وقريبا ستختفي الأوطان، ولن نعثر لاحقا على إنسان يشبهنا، بقدر ما نعثر على بشر آخرين وتقاليد وثقافات تهمّ الحداثيين وحدهم، ما دامت إبداعاتهم تتغذى بتجارب جاهزة، رغم تضادها مع كياننا. لا أحد يشكك في القفزة النوعية التي عرفها أدبنا، وخاصة من حيث مساءلة الأشكال النمطية التي كرّست عن طريق الحفظ. وثمة جهد في مراجعة القضايا البنائية والأسلوبية والبلاغية، وقد نجد هذا الارتقاء في كثير من التجارب، غير أنّ المشكلة التي ستطرح مستقبلا هي التنكر للقارئ والاستعلاء عليه بترسيخ جماليات ورؤى منفصلة عن أصحابها، وعن المجتمعات التي تعتقد أنها نخاطبها. الحداثة، حداثتنا، تنطلق من الكوخ والناي والتراب والفقيه والدرويش ومسبحة الجد وحكايات الجدات وما يقوله العصفور في الضيعة المنسية، من أصابع الفلاحين المتشققة، من ظهور الحمالين المقوسة، من الجوع، وليس من الجاز والموناليزا والفنادق الفخمة والملاهي وناطحات السحاب وكارل ماركس: تلك ملاحق ومقويات، وليست جواهر لأنها نفي للمحلي، وللذات والمحيط.