في فيلم "خارج الأسوار" لا يقول الأسير المحرر شيئا كثيرا عن الأرض التي غادرها، وكانت على مرمى "معتقل" من التحرير، فالواقع أقسى من أن يقول عنه كثيرا، لكنه يلهج بما يصنع بأبواب ضاع من ذاكرته طرقها وفتحها زمنا طويلا، وامرأة هي اكتشافه وخوفه الجديد، وهو الذي ضيع الخوف قبل السجن وفيه. صغارا دخلوا السجن، تعلموا لغات عديدة وكبرت عقولهم، لكنهم نسوا مشاعرهم في الدار. وعندما غادروا السجن نسوا كيف تنمو وكيف تستعمل، تركوا البلد "خرابيش" وبيوتا متواضعة. وعندما عادوا ضاقت جنبات البلاد "بعلب الإسمنت"، وأناس كثيرون نسوا كيف يخاطبونهم. تلك هواجس المحررين بعد تنسمهم هواء الحرية، أما في داخل المعتقلات فليسوا بحاجة لأن يقولوا شيئا، فمعاناتهم في الداخل، كان العالم شاهدا عليها يرقب على مدى أشهر كيف يمكن لمعركة الأمعاء الخاوية أن تكسر إرادة السجان. في فيلمه الوثائقي "خارج الأسوار" يختار المخرج الأردني الشاب أحمد الرمحي، زاوية أخرى لرصد معاناة الأسير، وهذه المرة خارج قفصه، ساردا تفاصيل عن فضاءات الحرية التي تستحيل سجنا آخر وعن اكتشافات الحياة من جديد، ولكن بعد أن مضى من العمر جزؤه الأكبر داخل الأسوار. تحكي تريز هلسا، وأحمد أبو السكر ومحمود أبو هدية وصالح أبو لبن ومحمود الجولاني ومحمود المشلاوي والأسير الإعلامي اللبناني أنور ياسين و تحسين الحلبي، وجميعهم أسرى محررون رجال وسيدات من فلسطين والأردن وسوريا ولبنان, وجعهم في السجن وخارج أسواره. وبعضهم سجن في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات إلا أن معاناتهم متشابهة. عن "صدمة الحرية" تقول تريز هلسا "دخلنا السجن صغارا لكننا اكتشفنا أن مشاعرنا الطفولية لم تنم وبقيت على حالها"، تحكي عن شغفها بممارسة الألعاب الطفولية بعد خروجها، وولعها حتى بعد زواجها بتخزين المواد الغذائية خشية نفادها، وهي التي جاعت كثيرا في المعتقل. وفي قصة أكثر تأثيرا تقول إن أول ما فعلته "عند تحريرها في عام 1983 في عملية تبادل الأسرى في الجزائر.. أنها توجهت في الأيام الأولى إلى السوق لتشتري (ملبس على لوز) كالطفلة الصغيرة". وبعد 27 عاما في المعتقل، يلجأ أحمد أبو السكر لذاكرته لرؤية رام الله كيف كانت قرية صغيرة إذ غادرها إلى عتمة السجون، بيد أن الأسير المحرر، الذي قام بعملية بطولية (عملية الثلاجة) في فلسطين أدت إلى مقتل سبعة "إسرائيليين"، لا يزال مؤمنا بالكفاح المسلح كطريق لتحرير فلسطين. تصدمه اتفاقية أوسلو التي أدت إلى اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية ب"إسرائيل"، وليفاجأ بأنهم كفدائيين كانوا يرعبون المستوطنين قبل الاعتقال، أصبحوا اليوم في ظل الاتفاقيات الشائنة يرون اعتداءات المستوطنين اليومية على الشعب الفلسطيني، وبالنسبة له فإن المستوطنات التي تنامت كالفطر بحاجة إلى حرب عالمية ثالثة لإزالتها. فيما يروي أنور الياسين قصة الأسوار العالية، إذ تحجب الشمس ويبدو الاحتفال بها لحظة استثنائية وغالية، دون رؤيتها نضال طويل وإضرابات متواصلة، وما بعد السجن غربة طويلة مع العالم وفضاء الحرية الجديد يحتاج معه أسبوعا كاملا ليعتاد النوم خارج الأسوار. على أن الياسين (أسير لبناني محرر) غادر سجنه بعد عقد من الاعتقال لتنقل الكاميرا صورته، وقد غدا مراسلا تلفزيونيا في إحدى القنوات اللبنانية، لينقل فظاعة المحتل وتنكيله خارج الأسوار في حرب تموز عام 2006. وفي حكاياهم، لا يندم المحررون على أسرهم الطويل، الذي لم يغير من حقائق الواقع السياسي على الأرض شيئا. في فيلمه يذهب صاحب أفلام "وادي عربة" و"الجذري والمنقوص في حق العودة" و"مروح على مصر" و"الكويت بذكريات فلسطينية"، إلى الغوص بعيدا في تفاصيل الأسير المحرر وجدل الحرية والأسر من غير ضجيج عال، مستعينا لملء فجوات فيلمه بتقنية "الرسوم المتحركة" و"الأنيميشن" كاسرا رتابة الحكي ووجعه في أحيان أخرى، ومعبرا به عما يدور في رأس المحررين أيضا. أما الأسرى المحررون، أبطال فيلم الرمحي، فهم حسبه يخفون خلف الصورة الأسطورية والنمطية عنهم "أناسا آدميين غابت عنهم العاطفة والحنان والتجارب في الحياة، وافتقدوا مراحل المراهقة التي لم يعيشوها"