قلَّ من توقع أن تلهب النار التي أوقدت جسد الشاب التونسي في مدينة سيدي بوزيد الجنوبية النائية مشاعر جميع التونسيين والعرب، لتفتح عقداً جديدا من التغيرات في بلاده تونس وبلدان عربية أخرى، وتكشف أن الشباب العربي ضاق ذرعاً بالفساد والذل والسياسات النيوليبرالية التي أفقرته في السنوات الأخيرة، ومع نجاح الثورة في تونس اتضحت محدودية قدرة القمع والاستبداد على إيقاف طموح الشباب. وتحول محمد بوعزيزي رمزاً وطنيا وقوميا، وتصدرت صوره صفحات مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي وبات رمزا ك جيفارا، ورأى مستخدمو المواقع الاجتماعية في البلدان العربية أن التغيير الذي فرضه الشباب التونسي نموذج يحتذى به، وباشروا بالإعداد لخطوات مماثلة في بلدانهم في ظل ضعف أو غياب الأحزاب التقليدية. وربما كان التعامل المرتبك للرئيس بن علي وحاشيته سبباً في تفاقم المشكلة، ونهاية عهد اتسم بالفساد بقيادة أقرباء زين العابدين وزوجته الثانية ليلي الطرابلسي وطبقة التجار المنتفعين التي تحيط بهما، فلم تفلح زيارته إلى الشاب البوعزيزي في المشفى ولا خطاباته المتكررة عن عدم نيته الترشح بعد العام 2014، ولا حتى خطابه الأخير وتكرار عبارة "أنا فهمتكم" في تهدئة الشارع، ولعل الدور الحاسم كان للجيش التونسي الذي قرر الانحياز إلى صف الشعب، وهو دور سوف يكون حاسما تقريبا في جميع الثورات التي تبعت تونس في المشرق والمغرب. وفاجأت ثورات الربيع العربي صناع القرار السياسي في العالم، وبدا ذلك جلياً في الارتباك الواضح في التصريحات الصحفية الأولى، ولعبت تسريبات موقع "ويكليكس" دوراً مهماً في فضح واهتزاز صورة القادة العرب في نظر شعوبهم، وشكلت حادثة إضرام الشاب التونسي النار بنفسه شرارة لثورة تونس التي سرعان ما انتقلت عدواها كما تنتشر النار في الهشيم لتمتد إلى البلدان العربية الأخرى فيما أطلق عليه لاحقاً "الربيع العربي". وتختزل حادثة البوعزيزي حال شريحة واسعة من الشباب العربي المثقف، تمتهن كرامتها يومياً على أيدي أجهزة القمع في الأنظمة الاستبدادية التي لم توفر لهؤلاء وظائف وأعمال لائقة، ورغم رضاهم بواقعهم والانتقال إلى أعمال لا تليق بتحصيلهم العلمي فقد وجدوا أنفسهم في مواجهة الفساد الإداري المستشري، والقمع المؤسساتي المنهجي من قبل السلطات. ورغم اختزالها للمشهد القائم في المناطق العربية المهمشة ومصير الشباب فيها، إلا أن الحادثة لم تشكل إلا "القطرة التي أفاضت ماء الوعاء" فالاستبداد في المنطقة شوه مسيرة التطور فيها على جميع الأصعدة السياسية والاقتصادية والاجتماعية وطاولت آثاره الفن والثقافة وحتى التاريخ. ولعبت المفاجأة دوراً كبيراً في تأخر ردود الفعل العربية والدولية، فالإدارة الأمريكية لم تتحرك قبل التاسع من يناير/ كانون الثاني 2011، أي بعد 23 يوماً من اندلاع المظاهرات في الجنوب ووصولها إلى المدن الرئيسة لاحقاً، واكتفت وزارة الخارجية الأمريكية باستدعاء سفير تونس لدى واشنطن وتسليمه رسالة تعبر فيها عن "القلق الأمريكي من الطريقة التي تم فيها التعامل مع الاحتجاجات، تبعتها تصريحات الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية مارك تونر في الثاني عشر من الشهر ذاته قال فيها "إن إدارة الرئيس باراك أوباما قلقة جداً بسبب تقارير عن استخدام الحكومة (التونسية) المفرط للقوة ضد المحتجين". كما انتقد الاتحاد الأوروبي الإجراءات الأمنية الصارمة التي اتخذتها السلطات التونسية ضد متظاهرين ووصفت استخدام الشرطة للقوة بأنه "غير متناسب وغير مقبول". (الحياة اللندنية 13 يناير/كانون الثاني 2011). ولم يعلق أوباما بذاته إلا بعد رحيل زين العابدين بن علي، وتوجه برسالة تهنئة إلى الشعب التونسي. وأشاد بشجاعته وكرامته، وقال "إن الولاياتالمتحدة تقف إلى جانب المجتمع الدولي للشهادة على هذا النضال الشجاع من أجل الحصول على الحقوق العالمية التي يجب أن نحافظ عليها، وسنذكر على الدوام صور الشعب التونسي الذي يسعى لإسماع صوته"، ودان لأول مرة في شكل مباشر"استخدام العنف ضد المواطنين الذين عبروا عن آرائهم بشكل مسالم"، وحثّ جميع الأطراف على "التزام الهدوء وتفادي اللجوء إلى العنف". ولم تختلف ردود فعل فرنسا الحليف الأهم لتونس كثيراً، فتبنت موقفاً حذراً جداً، وتذرعت بمبدأ "عدم التدخل"، وتناقلت الصحف الفرنسية خبر الثورة حتى الأيام الأخيرة قبل سقوط النظام في صفحاتها الداخلية على أنها "اضطرابات داخلية". وارتكبت وزيرة الخارجية الفرنسية ميشال اليو-ماري مجموعة من الأخطاء منها قضاء عطلة رأس السنة في تونس على رغم تصاعد الأحداث، وعرضها في أوج ثورة الياسمين في 11 فبراير/شباط 2011 على نظام ابن علي إرسال قوة قمع مدربة في إطار تعاون أمني لقمع المتظاهرين، وبعدها بأسبوع صرحت أمام لجنة الشؤون الخارجية في الجمعية الوطنية أن فرنسا حالها كحال دول أخرى "لم تتوقع الأحداث" التي أفضت إلى سقوط نظام بن علي. الوزيرة الفرنسية دفعت ثمن موقفها وقدمت استقالتها في السابع والعشرين من الشهر ذاته. وعقب سقوطه نأت الحكومة الفرنسية بنفسها عن بن علي وصرحت مصادر مقربة منها بأن باريس"لا ترغب في مجيء بن علي إلى أراضيها، وبررت الموقف بعدم الرغبة في إثارة استياء الجالية التونسية في فرنسا". وأعرب الأليزيه عن أمله في التهدئة وإنهاء العنف، وشدد بيان صادر عن الرئاسة الفرنسية على أن "الحوار وحده يمكن أن يؤمن حلا ًديمقراطيا ودائما للأزمة الراهنة". (الجزيرة 15 يناير/كانون الثاني 2011) ومن التصريحات اللافتة بعد رحيل بن علي مباشرة ما كتبه المسؤول عن مكتب الشرق الأوسط في مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي ستيفن كوك في مقالة بعنوان "تونس بعد بن علي، ويشير فيها إلى أن الجيش التونسي هو من أقال الرئيس بن علي وأن الجيش مسيطر على البلاد، ويلفت إلى أن "الثورة التونسية تخلو من الشعارات والخطابات الإسلامية، ولهذا يجب أن نضع حداً لنظرية أن الإسلاميين هم القوة الاجتماعية الوازنة في المنطقة، وأن المعارضة للأنظمة هي في الواقع أوسع بكثير". لكن نفس الكاتب يطرح تساؤلا مهماً حول إذا ما كان موقف الإدارة الأمريكية سوف يكون بالصرامة ذاتها إذا امتدت الثورات لتطاول مصر والجزائر والأردن وهي بلدان تربطها علاقات ومصالح مشتركة استراتيجية مع الولاياتالمتحدة مقارنة بالدور الثانوي لتونس. (www.cfr.org تونس بعد زين العابدين بن علي 14 يناير/كانون الثاني 2011). وبسرعة غيرت الولاياتالمتحدة خطابها وأعربت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون عن أملها في العمل مع التونسيين طوال هذه الفترة الانتقالية للسلطة. وقالت "نحن مصممون على مساعدة الشعب والحكومة على إرساء السلام والاستقرار في تونس، ونأمل أن يعملا سوياً من أجل بناء مجتمع أقوى وأكثر ديمقراطية ويحترم حقوق الناس". أما رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي السيناتور الديمقراطي جون كيري فتلمس الواقع الجديد، واعتبر أن تداعيات فرار بن علي ستتجاوز تداعياته حدود تونس. وقال إن الشرق الأوسط "يضم شعوبا فتية تتطلع إلى مستقبل خال من أي قمع سياسي وفساد وجمود اقتصادي". (رويترز 18 يناير/كانون الثاني 2011). وفي المواقف الدولية لابد من التعريج على موقف روسيا الاتحادية التي فوجئت كسواها بالثورة التونسية وأكدت الخارجية الروسية أهمية استعادة السلام والاستقرار في تونس بأسلوب الحوار الديمقراطي وفي إطار الدستور. وشدد الناطق الرسمي باسم الوزارة ألكسندر لوكاشيفيتش على أن "إعادة الأوضاع إلى مجراها الطبيعي في تونس في أسرع وقت ممكن هو من مصلحة أبناء الشعب التونسي"، وأعرب عن "قلق موسكو الشديد إزاء التطورات الأخيرة، وكانت الخارجية الروسية دعت المواطنين الروس إلى الامتناع عن القيام برحلات إلى تونس في هذه الفترة وهو ما دفع صحفياً عربياً إلى وصف الدبلوماسية الروسية في الشأن التونسي بالتعامل "بطريقة سياحية". (روسيا اليوم 15 يناير/كانون الثاني 2011) وأعربت الخارجية الروسية في وقت لاحق في 18 من الشهر ذاته على خلفية تصاعد أعمال النهب والسرقة في تونس عقب انهيار النظام عن "الأمل في إنهاء أعمال العنف وإطلاق حوار ديمقراطي "في إطار الدستور التونسي". وبرز الخوف من الثورة في تصريحات القادة العرب. وبدا الخوف من خطر الثورة التونسية وامكانية انتقالها واضحاً في تصريحات العقيد الليبي معمر القذافي التي تلت الإطاحة ببن علي، إذ ألقى باللوم على الشعب التونسي لتعجله في الإطاحة برئيسه "لماذا هذا .. هل من أجل أن تُحّولوا (تخلعوا) زين العابدين ألم يقل لكم انه بعد ثلاث سنوات لا أحب أن أبقى رئيساً. إذن اُصبر لمدة ثلاث سنوات، ويبقى ابنك حيا..ألا تستطيع أن تصبر." ورسم القذافي صورة قاتمة للأوضاع في تونس وقال "أنا في الحقيقة متألم جدا لما يحدث في تونس... العائلات يمكن أن تُداهم وتُذبح في دار النوم والمواطن في الشارع يُقتل وكأنها الثورة البلشفية أو الثورة الأمريكية"، ولم يغفل الزعيم، الذي قتل قبل نهاية 2011 بثورة شعبية تحولت إلى نزاع عسكري بعد تدخل غربي، انتهاز الفرصة والإشادة بنظام حكمه الجماهيري الفريد والإشارة إلى أن الثورة لم تكن لتنفجر "لو انتهجت تونس أسلوب ليبيا في الحكم الذي يستبدل الديمقراطية النيابية بحكم الشعب المباشر من خلال اللجان الشعبية". ودعا إلى عدم تسليم السلطة إلى أحد. (رويترز 16 يناير/كانون الثاني 2011) وعموما جاءت ردود الأفعال العربية الرسمية على التغيير السياسي في تونس خجولة ومتأخرة، إذ لم تعلق معظم الدول العربية على فرار الرئيس التونسي المخلوع من بلده، واتسمت التعليقات الصادرة بالعمومية إذ قال بيان لوزارة الخارجية المصرية "مصر تؤكد احترامها لخيارات الشعب في تونس الشقيقة، وهي تثق في حكمة الأشقاء التونسيين وقدرتهم على تثبيت الوضع وتجنب سقوط تونس في الفوضى". فيما نقلت بعض القنوات الحكومية الأنباء من تونس بعد تولي الرئيس المؤقت كما لو أن الإطاحة ببن علي خطوة عادية لم تنتج عن أي حراك شعبي. وعلى عكس الموقف الرسمي المتحفظ لأغلب الحكومات العربية لقيت الثورة ترحيباً شعبياً كبيراً. وشجع الانهيار السريع لنظام بن علي الشعوب العربية وبعث الروح بقدرتها على التغيير. وبعد يوم من فرار بن علي كان العنوان الرئيس على صفحات الصحف العربية مطلع قصيدة الشاعر التونسي المعروف أبو القاسم الشابي: إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر وصدحت الحناجر بهذه القصيدة في ساحات وشوارع، وبيوت كثيرة من البحرين إلى المغرب. وترددت أصداء الثورة التونسية سريعاً في ساحات مصر، فهتف مئات المتظاهرين "ثورة.. ثورة حتى النصر .. اليوم في تونس وبكره في مصر" في مقارنة رمزية لما يجري، ومهدت هذه التجمعات لتحركات أوسع، وتكشفت أمام الطبقات المستاءة آفاق أوسع للاحتجاج والإطاحة بنظام الرئيس المصري حسني مبارك وهو ما عبر عنه القيادي في حركة كفاية المصرية عبد الحليم قنديل إذ قال "إن الانتفاضة التونسية كشفت عجز الأنظمة الأمنية عن الصمود أمام الغضب الشعبي... هذه الانتفاضة بعثت رسائل واضحة للنظام والشعب في مصر، التي تمر بعام حاسم على طريق انتزاع الحريات وتحقيق الديمقراطية.. ونعتقد أن ما حدث في تونس سيزيد من خوف النظام وربما يدفعه لارتكاب مزيد من الحماقات التي ستعجل حتما برحيله". ولفت مقرر لجنة الحريات بنقابة الصحفيين محمد عبد القدوس إلى أن "الدرس التونسي الأهم هو في عدم انتظار التغيير من الخارج أو حتى من جماعات المعارضة المنظمة، والاعتماد على الهبة الشعبية لإنهاء الأنظمة الدكتاتورية... مخطئ من يعتقد أن أنظمتنا العربية المستبدة سترحل عندما تفقد التأييد الخارجي، وأنه لا أمل في قدرة الشعوب على التغيير". هذه التصريحات كان دعوات مباشرة للمصريين للاقتداء بالتونسيين، وإعلان انتفاضة شعبية باسلة لإنهاء حكم الرئيس مبارك المستمر منذ نحو ثلاثين عاما، وهو ما حصل إذا بدأ الشباب في مصر ثورة 25 يناير/ كانون الثاني بعد أيام فقط ثورته التي أطاحت لاحقاً بمبارك. (الجزيرة 16 يناير/كانون الثاني 2011) أطاحت "ثورة الياسمين" بحاكم تونس المُستبد، بن علي، بسرعة مذهلة، ما بعث الخوف في قلوب بعض القادة العرب، فيما فرح آخرون مؤقتا، لكن المؤكد أنهم جميعاً عكفوا على دراسة أسباب وتداعيات انتصار الشعب التونسي، وبدؤوا بالتفكير جدياً في احتمال تطور الأمور، وكيفية احتواء أي موجة احتجاجات قد تواجههم، رغم إشارة كل منهم إلى أن بلده لا تشبه الأخرى. وكان الدرس التونسي قاسياً، ذلك أن المؤسسات المالية كالت المديح لسياسات بن علي الاقتصادية. فقد نظر كثير من القادة العرب إلى التجربة التونسية كمثال يحتذى بها، حتى أن الرئيس السوري بشار الأسد قال في خطابه الأول بعد اندلاع الأزمة في بلاده في 30 مارس/آذار 2011 إن "تجربة تونس كانت مفيدة لنا كثيرا أكثر من تجربة مصر لأنه كان لدينا رؤية نموذجية للتطوير في تونس، وكنا نحاول أن نرسل خبراء كي نستفيد من التجربة" ولاحظ الأسد محقاً أنه "عندما اندلعت الثورة رأينا بأن الأسباب هي أسباب لها علاقة بتوزيع الثروة والتوزيع ليس توزيع الثروة بمعنى الفساد فقط وإنما التوزيع بين الداخل والوسط". وقبل الثورة بأشهر أوضح تقرير بعنوان "الطبقة الوسطى التونسية" ونشر في 17 مايو/أيار 2010 أن "المجتمع التونسي يتميز ببنية اجتماعية متجانسة مطبوعة بوجود طبقة وسطى مندمجة بقوة، ويعد ذلك عامل تعزيز للسلم وللحفاظ على الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي". وعملت السلطات التونسية على إعادة نشر التقرير مع التأكيد على أن حجم الطبقة الوسطى وصل إلى 81 في المئة من الشعب التونسي، لكنها وكعادة الاجتزاء التي تعمل بمقتضاها وسائل الإعلام الرسمية العربية أهملت أن التقرير ذاته يلاحظ أن هذا الاستقرار هش للغاية. إذ يشير إلى أن "استدانة الأسر موزعة على قروض السكن، والسيارة، والتعليم الجامعي، والاستهلاك الجاري...وهذا ما يمثل الوجه الأخر لميدالية الرخاء الاجتماعي..." ويفيد التقرير ذاته بأنه في 2008 وصل عدد الأسر الرازحة تحت الدين 800 ألف أسرة مرتفعة من نحو 500 ألف أسرة في العام 2003. وكشفت الثورة خللا واضحاً في التنمية الجهوية، ولفتت إلى ضرورة عدم الاعتماد على السياحة كمصدر رئيسي والصناعة المخصصة للتصدير إلى أسواق أوروبا، ومن المؤكد ان الأزمة الاقتصادية العالمية لعبت دوراً مهماً في تراجع الاقتصاد التونسي وارتفاع نسبة البطالة في السنتين الأخيرتين لحكم بن علي، ما عزز شعور الظلم تجاه الطبقات الحاكمة والمرتبطين معها، وهو ما دفع ربما " الطبقة الوسطى" في تونس إلى سحب تأييدها للنظام وانضمامها إلى حركة الاحتجاج. وتعبّر الصحفية المصرية نجلاء ذكرى في مقالة غداة الإطاحة ببن علي عن دهشة أي مراقب متابع لأداء الاقتصاد التونسي والتقارير الدولية عنه من تفجر الثورة، وتقول: "خلال زيارة عمل لتونس العام الماضي لمست أن الهدوء هو السمة الغالبة على الشعب الذي يتمتع بثقافة عالية وحالة اقتصادية جيدة على مستوى الطبقة المتوسطة"، وتعدد الكاتبة المديح الذي كالته المؤسسات الدولية للاقتصاد التونسي، لتخلص إلى أن السبب في النقمة من الجانب الاقتصادي يكمن في "أمرين الأول سيطرة الاقتصاد الموازي الذي بلغت نسبته 42 في المئة واجتاح جميع القطاعات حتى أن هناك 370 ألف مؤسسة تنتمي لهذا النوع من الاقتصاد التحتي ولا تسدد الضرائب... والأمر الثاني ارتفاع معدل البطالة خاصة بالنسبة لحملة الشهادات العليا حيث سجل حجم العاطلين 131 ألفاً و500 عاطلاً عام 2009 بزيادة 17ألفا و700 عاطل عن العمل عن العام الذي سبقه 60 في المئة منهم من حملة الشهادات العليا. وتوضح الصحفية المصرية أن "خطأ الحكومة هو أنها تجاهلت شكاوي الشباب وانخرطت في فتح الأسواق للاستثمار الأجنبي باعتبار أنه الأكثر قدرة علي التشغيل دونما وضع الضوابط للحدود الدنيا للأجر بالنسبة للعاملين في هذه المشروعات مما أدى إلي تراجع في مستويات المعيشة والأجور ومشكلات اجتماعية كبيرة خاصة في ظل غياب شبكة حماية اجتماعية واسعة تقلل من أثر موجة الغلاء علي المواطنين". (صحيفة الأهرام 15 1 2011 نجلاء ذكرى) ويضيف خبراء آخرون أسباباً لتفجر الأوضاع في تونس أهمها تفشي الفساد والرشوة، اللذين تحولا إلى "شكل من أشكال الالتفاف على صعوبات المعيشة والحياة اليومية وتدبير الموارد اللازمة لها بغض النظر عن السبل والكيفيات التي يتمّ اعتمادا عليها الوصول إلى الموارد والمنافع"، وأن إمكانيات الطبقة الوسطى التي تتباهى بها السلطات محدودة و"تعمق ظاهرة مديونيتها والرغبة في الإثراء السريع جعلت التونسي يساير الفساد والفاسدين. ويشير نائب رئيس الوزراء وزير الخارجية الأردني الأسبق مروان المعشر بعد أيام من اطاحة بن علي وقبل يوم من تفجر ثورة 25 يناير في مصر إلى أن هناك ثلاثة دروس يتعيّن على العالم العربي أن يستفيد منها بعد أحداث تونس. الدرس الأول؛ يتمثّل في أن ما حدث لا علاقة له بالاقتصاد فقط بل أساساً بالحوكمة. وبالتالي، يتعيّن أن تعالج الحلول قضايا الحكم بقدر ما تعالج الهموم الاقتصادية. والثاني؛ أن لا أحد في مأمن، ولا يمكن لأي بلد أن يقول بأنه ليس في خطر. فقد كانت تونس بلداً يعمل في شكل جيد، وفيه معارضة معتدلة وأجهزة أمنية قوية، ويتمتع بنمو اقتصادي قوي نسبياً، لكن هذا لم يحل دون اندلاع الأزمة. والثالث؛ أنه من الخطأ طرح الحجة القديمة التي تقول إنه لا يمكن للبلدان فتح النظم السياسية من دون أن يأتي الإسلاميون إلى الواجهة. فبينما لا يزال بمقدور الإسلاميين ممارسة التأثير بعد فتح النظم السياسية، اتضح في تونس أنه ليس ثمة حاجة لأن يأتي التغيير على يد جماعة مسلحة أو على يد المعارضة الإسلامية. بدلاً من ذلك، أمكن لشخص واحد أن يؤجج ثورة أدت إلى سقوط حاكم مستبد. وهذا يشي بوجود مشكلة بنيوية أعمق يتعيّن معالجتها بطريقة مستدامة، وليس من خلال ردود فعل غير محسوبة وقصيرة المدى. ويؤكد المعشر أن "من يجادلون بأن العالم العربي ليس في وضع مُفجع يجانبون الحقيقة والواقع. فالأحداث الصغيرة يمكن أن تُفجّر أزمة على مستوى المنطقة، وما لم تتم معالجة قضايا الحكم التي تتقاطع في جميع البلدان والتصدي لها بسرعة، فسيعاني العالم العربي المزيد من الأزمات في المستقبل. هذا هو الدرس الأهم الذي يجب أن يتعلّمه العالم العربي والمجتمع الدولي من الأحداث الأخيرة في تونس". (مروان المعشر موقع معهد كارينغي 24 يناير/ كانون الثاني 2011) دبَّ الخوف في قلوب الساسة العرب إثر نجاح ثورة تونس، ورغم إصرار كل زعيم أن بلاده تختلف عن الأخرى، إلا أن الواقع يبين أن هناك تشابهاً كبيرا في الظروف التي تعيشها مختلف البلدان من المحيط إلى الخليج، بغض النظر عن طريق التطور الاقتصادي والسياسي الذي انتهجته بعد مرحلة الاستقلال فإخطبوط الفساد كان يطوق جميع البلدان العربية، ويذهل المتابع لحجم الفساد المستشري فيها ما يعطل مشروعات التنمية، ويضعف النمو الاقتصادي، واللافت أن المواطن البسيط هو من يدفع الثمن. ومما يدلل على حجم الفساد ما خلص إليه مؤتمر دولي عُقد في بداية يوليو/تموز 2010 عقد بالقاهرة من أن الفساد كلف الدول العربية تريليون دولار(ألف مليار) في الفترة الممتدة ما بين عام 1950 وحتى 2000. وأكد المشاركون في المؤتمر أن المبلغ المهدور كان يمكن أن يرفع دخل المواطن إلى 200 دولار شهرياً، وتحقيق اكتفاء ذاتي من الغذاء والماء، ومكافحة الفقر. (أنباء موسكو، النصف الأول من يوليو/ تموز 2010). وأوضح الدكتور عامر خياط الأمين العام للمنظمة العربية لمكافحة الفساد "أن مجموع الإيرادات للدول العربية في نصف القرن الذي تمت فيه الدراسة بلغ ثلاثة آلاف مليار دولار أنفقت بنحو ألف مليار على التسلح، وألف مليار أخرى على مشاريع تنموية والتعليم والبنية التحتية، فيما ذهبت ألف مليار دولار في شكل غير شرعي للرشاوى وتأهيل الصفقات للتسهيل علي البندين السابقين، ما يعني أن ثلث الدخل القومي المتراكم في هذه الفترة ذهب هباء بدلاً من استغلاله في التغلب علي مشكلة الفقر والغذاء في المنطقة العربية، ورفع دخل المواطن العربي، وتحقيق الاكتفاء من المياه، ومحو الأمية، وتوفير فرص عمل". وأكد المشاركون في مؤتمر "نحو إستراتيجية لمكافحة الفساد" أن اغلب الدول العربية تعاني من الفساد وتأثير المال مما خلق دولة رخوية تفقد قدرتها على علاج المشاكل" (الجزيرة السعودية 6 يوليو/تموز 2010)، ولفت الخياط إلى أن "الصناديق العربية تحتل 6 مواقع من بين عشرة الأغنى في العالم ولا تخضع للرقابة والمساءلة باستثناء صندوق الكويت الذي يخضع للبرلمان". ولفت مدير عام المنظمة العربية للتنمية الإدارية الدكتور رفعت الفاعوري إلى أن "الفساد ظاهرة تهدد المواطن وتنتقص من حريته، وتهدد من كرامته وتضعف من ولائه للدولة مما يحد من العدل والإنجاز ويولد شعورا بالإحباط واليأس"، وإضافة إلى اشتراكها في الفساد المستشري فإن معظم الحكومات العربية لم تكمل التشريعات الخاصة باجتثاث الفساد، ولم تطلق حملات ذات مصداقية لمكافحة الفساد، ولعل السبب الرئيس في عدم وجود ذلك يعود إلى أن أطرافاً في النخب الحاكمة ورجال الأعمال المقربين منها يعدون المتورطين الرئيسيين في الفساد ما أضعف أي إمكانية حقيقية لتحقيق تقدم ملموس. وفي التقرير السنوي لمنظمة الشفافية الدولية للعام 2011 عن مؤشر الفساد في العالم حلت معظم البلدان العربية في مراكز متأخرة. وأوضحت المنظمة أن "تفشي الفساد كان واحدا من الأسباب الرئيسية في الزلازل السياسية التي اجتاحت الشرق الأوسط والعالم خلال العام 2011". وأعربت المنظمة التي يوجد مقرها في العاصمة الألمانية برلين عن اعتقادها بأن "المحتجين الذين خرجوا بمئات الآلاف للمطالبة بالإصلاح قد حملوا رسالة مفادها أنهم يرغبون في أن يتمتع قادتهم بقدر أكبر من الشفافية وأن يقبلوا الخضوع للمسائلة"، واعتبرت منظمة الشفافية أن "الاستبداد والفساد مترسخان في الحياة اليومية إلى حد أن قوانين مكافحة الفساد القائمة لا تملك أثراً كبيراً". (تقرير منظمة الشفافية الدولية 2011) وفي ظل ظروف الفساد، وغياب الشفافية والحكم الرشيد، وانعدام الديمقراطية انتقلت شرارة الثورة من بلد إلى آخر لتطيح حكاماً مستبدين لم تعرف أجيال حكاماً غيرهم وظنوا أنهم مخلدون. وشكل هروب زين العابدين بن علي من تونس في الرابع عشر من يناير/ كانون الثاني 2011 تحت وقع الحراك الجماهيري الواسع ضربة قوية للأنظمة العربية التي حاولت أن تظهر رباطة الجأش، والتظاهر بعدم اكتراثها لما حصل في هذا البلد العربي المغاربي، وفي المقابل انتشت فئات وشرائح اجتماعية واسعة من المحيط إلى الخليج بالنصر الذي حققه الشعب التونسي على طاغيته الذي قفز إلى السلطة واستأثر بها أكثر من 22 عاماً، كتم خلالها على أنفاس الشعب، وفرض دكتاتورية تحكم فيها مع أسرته وأقارب زوجته على مقدرات تونس الاقتصادية، وازداد الاقتناع بقدرة الشعب على التغيير لتترسخ في الأذهان فكرة إرادة الشعب، وهو ما بدا واضحاً في مختلف الشعارات المطروحة "الشعب يريد...". ومما لاشك فيه أن تعطش الشعوب إلى الديمقراطية، ومتابعة القنوات التلفزيونية نقل الأحداث لحظة بلحظة لعبت دوراً كبيراً في تحفيز الفئات المهمشة، وشجعتها على الخروج إلى الشوارع والساحات. كما لا يمكن إغفال الدور الكبير لتطور وسائل التواصل الاجتماعي في توحيد رؤية الشعوب وحشد فئات واسعة لانهاء سنوات طويلة من حكم دكتاتوريات حولت بلدانها إلى "مزارع خاصة" والمواطنين إلى "رعايا"، وهمشت دور المجتمع المدني والأحزاب، والمؤسسات الدستورية وأحلت بدلاً عنها دائرة ضيقة تتمثل بالأسرة الحاكمة ومجموعة من المستشارين، ورجال الأعمال المنتفعين. وبالعودة إلى السؤال عما إذا كانت ثورة الياسمين الشرارة التي أطلقت موجة الربيع العربي يصعب على كثيرين الإجابة بنعم أم بلا، خصوصا في ظل التطورات والتدخلات الكثيرة من الأطراف الإقليمية والدولية وتأثيرها في مسارات الحراك الجماهيري، وتحوله إلى نصف ثورة في مكان، وإلى حرب أهلية في آخر. لكن تحليلا دقيقا للمواقف الدولية أثناء ثورة الياسمين وما بعدها، ودراسة جادة تتناول الأوضاع السياسية والاقتصادية والإجتماعية في جميع البلدان العربية تستبعد التدخل الخارجي في إطلاق الثورة، وتخلص إلى أن الظروف كانت متشابهة ومؤهلة للتحرك ضد أنظمة استبدادية همشت الشعوب، وتغاضت عن أبسط مطالبها. ومازال كثيرون، رغم المشكلات التي تعترض الربيع العربي، على قناعة بأن الشرر المتطاير من جسد البوعزيزي أطلق إشارة للشعوب حتى تتحرك وتسقط دكتاتوريات أعادت شعوبنا مئات السنين وشوهت من صورة المجتمعات العربية، ويشددون على أن التخلص من آثار الأنظمة السابقة يحتاج جهودا حثيثة من المجتمعات لسنوات عدة. ملاحظة : (المقالة تعبر عن رأي الكاتب، وهيئة التحرير غير مسؤولة عن فحواها) المقالة جزء من دراسة حول أسباب وتداعيات الربيع العربي والمواقف العربية والدولية. ______ منقول عن ..http://arabic.rt.com/news_all_news/analytics/69212/