يتحدث الكاتب الصحفي والشاعر والناشط الحقوقي سالم بوبكر، في هذا الحوار الذي خص به جريدة «الشعب» عبر الهاتف عن بدايات ثورة الشعب التونسي الشقيق، وكيف كانت امتدادا لانتفاضات شعبية شملت المدن الجنوبية التونسية، لتنتقل فيما بعد إلى باقي المناطق الأخرى احتجاجا على ما وصفه بالظلم والاستبداد الممارس ضد الشعب التونسي منذ سنوات، مؤكدا أن تلك الثورة لم تكن عفوية بل كانت نتيجة رسائل المبدعين والصحفيين. ووصف الناشط الحقوقي التونسي الوضع حاليا بتونس بالصعب، مشيرا إلى أن الديمقراطية ليست عمارة جاهزة، وأن البطولات وحدها لا تصنع الدول، داعيا الشعب التونسي إلى التحلي بالصبر حتى لا تضيع مكاسب الثورة التي ناضل من أجلها العديد من النخب عقودا طويلة. وتطرّق الكاتب الصحفي إلى حقائق ومواضيع كثيرة، تابعوها في هذا الحوار .. @ $ : ماهي طبيعة الانتفاضة التي عاشتها تونس الشقيقة؟ @@ سالم بوبكر: هذه ليست انتفاضة، هي ثورة بأتم معنى الكلمة، هي ثورة فريدة من نوعها لأن الشعب وحده ثار على الظلم والقهر والانغلاق السياسي وعلى «الاستكراش» واحتكار السلطة والثروة في كمشة من العصابات «مافيا فساد»، فخرّبت البلاد اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. الفساد لم يترك ركنا من أركان المجتمع إلا واندس فيه وخرّبه تخريبا لا مثيل له خرّبه ابتداء من أكبر مكاسب الشعب منذ بناء دولة الاستقلال، الصحة والتربية والفلاحة انطلاقا من أواخر عهد بورڤيبة تحديدا ابتداء من سنة 1969 إلى أواسط الثمانينات من القرن الماضي وامتدت بضراوة إلى اليوم. لكل ذلك اِنفجر بركان الثورة وهي ثورة شعبية فريدة من نوعها قادتها الجماهير، أي الذين قاموا بها أفراد من الشعب. كانت في الظاهر عفوية دون قيادة ظاهرة سواء من الأحزاب أو المنظمات المدنية والشغيلة، لكن بعد اِنطلاقها ظهرت القيادات وخاصة إطارات المنظمة الشغيلة والمحامون، وبشكل أقل قواعد الأحزاب في الجهات. لذلك أرفض وصف هذه الثورة بالانتفاضة الاحتجاجية فهي أكبر من ذلك، هي ثورة فريدة من نوعها في العالم ، تواتر الأحداث فرض النظام اِنطلاقا من شعوره بالخوف والفزع، حالة الطوارئ وحضر التجوال لبث الرعب في صفوف الشعب، ومحاولة كبح جماح الثائرين ثم لجوء النظام وزبانيته إلى بث عصاباته في أرجاء البلاد وخاصة في العاصمة لإرباك الثورة بالقتل والنهب والتكسير وتخريب المؤسسات العمومية والخاصة، لكن الثورة الواعية التي اِستندت إلى ما حدث في 26 جانفي 1978 إثر الإضراب العام الذي قام به الإتحاد العام التونسي للشغل واِعتبارا لانتفاضة الخبز في 3 جانفي 1984 وما قامت به مليشيات الحزب الحاكم (الحزب الدستوري الاشتراكي وريث الحزب الحر الدستوري)، وعملا بالحكمة التي تقول لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، تكونت لجان شعبية في كل مكان لحماية المكتسبات والأرواح بالتنسيق مع أفراد الجيش الذي حمى الشعب والوطن والدولة ابتداء من الجندي البسيط إلى القائد الأعلى، فكان الانسجام والتكامل التام من فرض الانضباط والالتزام بالقانون رغم بعض الإنفلاتات الأمنية التي ما تزال تظهر هنا و هناك، إلى جانب طرح ورفع شعارات عملية واقعية تعبّر عن حالة الغبن والظلم التي يعاني منها الجميع عمال وإطارات وبطالين رفعت الثورة شعارات اجتماعية ومهنية وسياسية، فكل هذه الجوانب التي كوّنت مضامين الثورة تواجدت في أغلب الثورات. وقد اِعترف بها العالم أجمع، وصفها البعض بثورة الجياع والمحتاجين لأنها طبعا اِنطلقت من المناطق الفقيرة والمحرومة، وكأنهم يقولون هي ثورة بطون. هذا نعت مخزي ومذلّ للثورة والشعب الذي قام بالثورة. فهذه الثورة هي فعلا ثورة عقول لا ثورة بطون، وما علينا إلا أن نمعن النظر ونقرأ قراءة صحيحة للشعارات التي رفعت أثناء الثورة. والدليل على ثورية التحركات الشعبية أنها اِستطاعت أن تسقط الحكومة وجميع القيود الدستورية، وأجبرت الحكومة الوقتية على اِتخاذ حلول عملية وسريعة. في اِعتقادي أنها ملبية لمتطلبات المرحلة الراهنة، وتحديدا لمسار هذه الثورة العزيزة. فالذي تحقق لحد الآن وهذا من منظور ماهو معلن وأعتبره مازال في طور الأمان، والآن علينا أن نترقب التطبيق حتى نلمس الواقع. كسرت الثورة هُبَلْ وأجبرت الدكتاتور على الهروب خارج البلاد، وتشتت شمل عصابة الثورة في شتى البلدان والأماكن، وتم القبض على البعض منهم ليحاسبوا أمام القضاء. @ $: إلى أيّ درجة يمكن اعتبار هذه الثورة كما تريد أن تصفها ذات طابع عفوي؟ وهل يمكن اِعتبارها رائدة في العالم العربي؟ @@ كانت في البداية عفوية، إذ فجّرها شاب من سيدي بوزيد أحرق نفسه أمام مقر من مقرات السيادة نتيجة لتعرضه للظلم والقهر «حقرة» كما تقولون في الجزائر. الشهيد محمد بوعزيزي رحمه اللّه وأسكنه فراديس جناته «أمين»، هل كان مسيسا؟ نحن في الحقيقة لا نعرف ذلك، ولكن من المؤكد أن الثورة التي اِنطلقت في ساحات ولاية سيدي بوزيد واِمتدت إلى كافة جهات الوطن بمدنه وقراه وبلدانه وريفه، لم تكن عفوية بل كانت مبرمجة في عقول الشباب منذ زمن بعيد. و لكن هذا البرنامج ومن الغباء السياسي لحكامنا وسذاجة رؤيتهم الإستشرافية الحاضرة - الغائبة لم ينتبهوا لها كان ينتقل من واحد إلى آخر، ومن مجموعة إلى مجموعة، ومن جهة إلى جهة عبر عديد الوسائل والوسائط البسيطة منها إلى أعقدها، واِنطلاقا من ساحات التجمعات في المناسبات الرياضية و الأعياد وحتى في مواكب الجنائز عملا بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة. اِستعملت صور «شي ڤيفارا» الثائر العالمي، صور «كارلوس»، صور المغني الملتزم «بوب مارلي»، صور «مانديلا»، الأغاني التي تتغنى بالفرق الرياضية في بث بعض الشعارات مثل «اللي دخلوا للحبوسات يدافعوا عَلْ الحرية»، من دخلوا السجون دفاعا عن الحرية، (أغنية تمجّد النجم الرياضي الساحلي) وغيرها من الظواهر مثل الكاريكاتور Caricature المنشورة في بعض الجرائد و المكتوبة على الجدران، وخاصة عبر الشبكة العنكبوتية. لقد اِستوعبها الشباب الواعي والمتعلم والمثقف، لكن «النخبة» النخبوية في السلطة وحتى خارج السلطة كانت غائبة فلم يحسنوا قراءتها. أمر ثان: هذه الثورة لم تكن عفوية كما يقرأها الرجل العادي، بل كانت نتيجة لرسائل المبدعين والصحفيين الذين تحملوا مسؤولياتهم الحضارية إزاء شعبهم ووطنهم سواء بالصور (أفلام) أو بالكلمة الحرة. وكان قد حصل لي شرف المساهمة منذ عهد بورڤيبة وفي عهد المخلوع في إبلاغ الرسالة رسالة الرفض والخنوع وكم مرة، إن شعرا أو مقالا أو تدخلا في منتدى فكري/سياسي/ثقافي إلا وتدخلت وقلتها دون خوف أو ورع. وتحملت وعائلتي الضيم بالصبر والصمود، كنت أقاتل بالكلمة الصادقة إلى جانب الآلاف الذين سلّط عليهم الكثير من التعذيب والإقصاء والتهميش والحرمان في وطنهم، فهُجِّروا أو غيِّبُوا في السجون المظلمة إلى أن اِستشهدوا فداء للوطن وللكلمة الحرة والكرامة. أما في يخص الجزء الثاني من سؤالكم، فإن ثورة تونس التي اِنطلقت منذ 17 ديسمبر 2011 حتى ليلة فرار الطاغية مساء 14 جانفي 2011، لم تكن منعزلة عن الانتفاضات الأخرى في هذا القرن، نتذكر انتفاضة الحوض المنجمي بولاية ڤفصة من الجنوب التونسي وما آلت إليه، تذكر انتفاضة بني ڤردان على الحدود التونسية الليبية وما آلت إليه عدا انتفاضات أخرى في عديد الجهات قامت بها مجموعات طلابية وشغيلة، واعتصام للشباب العاطل وعمال طردوا من المصانع التي أغلقت أبوابها بموجب أو بدون موجب قانوني كتحايل على القانون بالقانون لتلافي عدم ترسيم عمالتها، فتغير الشركات وخاصة تلك الشركات المصدرة جزئيا أو كليا أسماءها وعناوينها لتتهرب من دفع الضرائب للدولة ومستحقات العملة من الرواتب وضمان اجتماعي وتقاعد ...إلخ. وفي الريادة أقول ببساطة نعم هي ثورة رائدة ودافعة للقوى المحبة للخير والحرية والكرامة والديمقراطية، لأن العالم العربي لا في العالم العربي فقط رغم الفوارق الجغراسياسية. فمصر لها خصوصياتها كما الجزائر بخصوصيتها أو أي قطر عربي آخر، كل بخصوصيته الاجتماعية في تركيبته المتنوعة من قبائلية وطائفية. ولا أبالغ عندما أقول إنها ريادة عالمية لسبب واحد، وهو أنه غالبا عندما تقوم الثورات تكون إما بقيادة سياسية أو اجتماعية أو دينية، فالثورة الفرنسية مثلا كان قادتها مونتيسكيو «Montesquieux» وبلزاك «Balzac» وجون جاك روسو «Rousseau J.J» وغيرهم، الثورة الإيرانية كان قائدها الإمام الخميني، في بولونيا كان قائدها الزعيم النقابي لاش فاليزا «Valeza Lach»، أما في تونس فثورتها شعبية وإن أخذت الدروس من تلك المواقف التي تحدثت عنها في الجزء الأول من سؤالكم. أما الشهيد محمد بوعزيزي فقد كان قادحة الأمل التي نفضت الرماد أو نفخت فيه حتى ظهرت الجمرات المدفونة وبقت مشتعلة منذ سنين، وحتى لا نغوص في غابر التاريخ منذ ثورة علي بن غذاهم في ستينيات القرن التاسع عشر، لكن ثورة بن غذاهم اِنتهت بالفشل، فتم خداعه بتلبية الباي بعض مطالبه ثم اِلتف عليه وكمن له، فتم القبض عليه مع جماعته وقتلوا جميعا دون تحقيق المطلوب. @ $ : والآن ما العمل؟ @@ الوضع صعب وصعب للغاية، باعتباري مثقف وأستطيع أن أقول بأني محلل سياسي لا أستطيع أن أقدم تحليلا موضوعيا في هذا الظرف العصيب لأن المحلل السياسي يبني تحاليله على الواقع ولا يبنيها على الأماني. و الديمقراطية ليست هدفا بحد ذاتها، فهي آلية لبلوغ عدة أهداف ومفتاح أساسي ، في غيابها لا يمكن لنا بناء مجتمع متضامن، متوازن، يتمتع بحقوقه كاملة في جميع المجالات يسوده العدل والإنصاف واِحترام الذات البشرية دون أي إقصاء، و كما قال كليمنصو «Clemenceau .J»: «من اليسير أن ننتصر في الحرب لكن من الصعب الاِنتصار على مشاكل السلم». فالديمقراطية ليست بعمارة جاهزة، الديمقراطية تبنى لبنة لبنة، وحجرة حجرة. والثقة وحدها والبطولات وحدها لا تصنع الدول، فإني أدعو إلى الصبر واليقظة حتى لا تضيع منا مكاسب الثورة التي تحققت لحد الآن، وهي مكاسب هامة جدا أنجزتها الثورة في أقل من شهرين وقدمتها للنخب السياسية والفكرية على طبق من ذهب، فقد ناضلت من أجلها عقودا طويلة. لقد أطاحت الثورة العظيمة بالطاغية بن علي في ظرف وجيز كما قلت، و تم فصل الدولة عن الحزب الذي كان عالقا بها، وخرج المساجين السياسيون من السجون وزنزاناتهم المظلمة. وقانون العفو التشريعي العام أعلن، والمشروع الآن في طريقه إلى مجلس النواب، ولجنة الإصلاح السياسي والدستوري بدأت في العمل، إلى جانب لجنة تقصي الحقائق حول الفساد والرشوة وتجاوز القانون...إلخ، وتم عزل أو إحالة على التقاعد الوجوبي الكثير من الكوادر الأمنية. فدمقرطة الحياة السياسية والاجتماعية والإعلامية ليست بالعملية السهلة، وحل المشاكل التربوية والبطالة هي عملية صعبة لأن هذه المشاكل لا تحل بين عشية وضحاها خاصة إذا نظرنا موضوعيا إلى إمكانية الدولة والبلاد. يجب الآن أن نفتح الطريق ونعيد الأمن إلى المواطنين حتى يدور دم الاقتصاد في البلاد وفي كل الشرايين ليستمر قلب البلاد في النبض. وهذا لا يمكن تحقيقه إلا إذا وفرنا الوقت لأهل الاختصاص والذين حازوا على ثقة أغلبية الشعب من خلال الإتحاد العام التونسي للشغل والمجتمع المدني، وخاصة الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وعمادة المحامين وجمعية المحامين الشبان وجمعية القضاة...إلخ، مع الالتزام باليقظة التامة وسد الطريق ديمقراطيا أمام كل التوجهات الكيانية والمتطرفة سواء يسارية كانت أو يمينية دينية. @ كلمة أخيرة ل «الشعب » @@ في الختام أدعو شعوبنا العربية إلى العمل على التغيير بطرق سلمية كما تم في تونس تغيير دون عنف لا من هذا الطرف ولا من ذاك، وعدم ترك الأمور للشارع. يجب على الشعب أن يأخذ بزمام المبادرات، وهنا أفرق بين الشعب والشارع. الشارع فوضى قاتلة، الشارع عاطفي ونزوي (من نزوة)، وعنيف فيه المجرم القاتل واللص. الشارع لا يعرف العقل فهو غابة لا يعيش فيها إلا صاحب العضلات المفتولة، أما الشعب فهو عقلاني نخبه مثقفة ، مفكرة ، متعلمة يعرف حدوده ويعرف كيف يحدد ويحقق أهدافه. والحرص كل الحرص على اِحترام حرمة القانون، والمحافظة على الأخلاق الاجتماعية، والمحافظة على روح الدولة ومؤسساتها المدنية والأمنية والدفاعية، لأن الأنظمة الفاسدة قد تذهب بأية طريقة وتعويضها بأنظمة رشيدة، أما إذا سقطت الدولة وخرّبت مؤسساتها يكون إعادة بنائها صعبا وصعبا جدا، والعراق عبرة لمن يريد أن يعتبر .