حققت " روايات الهلال" ، في هذا الشهر أمنية المرحوم والكاتب الكبير مالك حداد الذي قال: "إن حنيني كان وما يزال دوما، حنينا يتيما إلى قراء يقرأون لي باللغة العربية التي كنت أود أن أعبر من خلالها... لغة أجدادي العرب، وسيظل هذا الحنين مرافقا لي حتى تتحقق أمنيتي". بهذه الكلمات استهل مالك حداد مقدمة روايته (التلميذ والدرس) التي أصدرتها روايات الهلال بترجمة الكاتب والروائي الجزائري شرف الدين شكري. وتقول هالة زكي مدير تحرير سلسلة (روايات الهلال): إن حداد كان يشعر دائما بالتناقض بين حضارتين مختلفتين، الأولى ولد فيها، والثانية، عاش فيها شبابه حتى تحقق استقلال البلاد عام 1962. وكان يحلم دوما بأن يقرأه الجزائريون والعرب بلغته الأصلية. مالك حداد هو الشاعر والروائي والصحفي الذي اختار بكل وقار وخجل أن يأوي إلى محراب الصمت "الإبداعي" بعد استقلال الجزائر، ليس كُفرا بالقلم ولا اعتزالا للكتابة ولا عداء للغة المُستعمر التي كان يكتب بها، ولكنه كان موقفا يستند إلى ميراث تاريخي وفلسفة إنسانية وأمور أخرى تهيّب الباحثون والدارسون من تعمّقها، حتى أن أحد كبار المشتغلين بالأدب الجزائريين لم يخف أن شعورا من التناقض يباغته كلما أراد أن يدرس مالك حدّاد، وربما أن "فهم" مالك وإدراك أسرار عوالمه وفلسفته يكون بالقراءات العاشقة والانطباعية ولا يكون بالدراسات الأكاديمية... فاشتهر "مالك حدّاد" ب"شهيد اللغة العربية" وبمقولته "اللغة الفرنسية منفاي، ولذا قررت أن أصمت". قال مالك حدّاد: " أنا أكتب باللغة الفرنسية حتى أقول للفرنسيين: أنا جزائري"، وربما تمنى أن يكتب باللغة العربية ليقول للجزائريين: "أنا أكتب بلغتي لأقول لأبناء وطني كونوا جزائريين وافخروا بجزائريتكم وبثورتكم وبهويتكم وبلغتكم"، ولم يستطع الكتابة بالعربية فالتزم الصمت، لكن مقولة مالك عن سبب كتابته بالفرنسية لا تفسّر "انقطاعه" عن الكتابة بهذه اللغة لأن الجزائر نالت استقلالها ولم يعد هناك من يشكّك في جزائريته من الفرنسيين، أو لنقل لم يعد هناك مُسوّغ ليخاطب الفرنسيين أنه جزائري، والبحث عن أسباب الصمت تدفع بنا إلى المغامرة صوب المتاهة وقراءة مناخ السنوات التي عاشها مالك حداد بعد استقلال الجزائر، مناخ مشحون بالصراع بين ذوي الثقافة الفرنسية وبين الجزائريين المنتصرين لأصالتهم وانتمائهم ولغتهم، صراع في مجال الثقافة والتربية والتعليم والإعلام وفي مجالات أخرى مرتبطة بالتموقع السياسي ورسم توجّهات الجزائر، صراع لم يُحسم ولمّا يزل قائما حتى اليوم، والبحث في أسئلته هو غلغلة للخناجر الصدئة في جروح هناك من يريد لها أن لا تندمل وتبقى مفتوحة لأزمنة أخرى. فرواية (التلميذ والدرس) يقوم بناؤها الأساسي علي المونولوج الطويل، فنحن لا نتعرف طوال الرواية إلا على شخصية واحدة فقط، الطبيب الجزائري الكهل القاطن في إحدى المدن الفرنسية وحيدًا، بعد أن ماتت زوجته ويحاول الطبيب إبقاء حفيده بين أحشاء الابنة المتمردة "فضيلة"، التي جاءت إليه راغبة في الإجهاض. ويكشف رموز البطولة في المقاومة الجزائرية للاحتلال الفرنسي من خلال ابنته وصديقها والد الطفل، وهما ينتميان إلى المقاومة، ويدرسان سويا في الجامعة. هذا الطالب وهذه الطالبة كانا في صراع ضد القيم الغربية، الذاكرة الغربية؛ فشهر جويلية لم يعد يتغنى بمحاصيل الحب، ولكن بذكرى إنزال قوات الاحتلال عند ضفاف الجزائر عام 1830 م . الرواية تضع الأب والابنة وجها لوجه، فيقول الأب: "لم أعهد ابنتي بهذا الجمال بهذه الوقاحة والشراسة ليس للزمن ذاكرة نسيت ذلك، فضيلة ولدت في لحظة الكلمات، أرمقها ،لا أفهم ،عيناها السودوان ،إنهما تلمعان، هذه الصغيرة التي لم أعد أعرفها". مواجهة تعكس أحد مظاهر الصراع بين جيلين، جيل ينظر إلي جيل، جيل يتكلم إلى جيل ،جيل ليس بمقدوره إلا أن يصمت، جيل يقاضي جيلا ويصدر حكمه، ويتجلى هذا الصراع في أعقاب الحرب العالمية الثانية.