لم تكن لفظة «التلوّث»تستعمل كثيراً في لغة الأجداد،وهي تأتي،كما هو معروف،بمَعناةِ التلطّخ؛فتلويث الثياب بالطين مثلاً هو التلطيخ.وكان اللَّوْثُ عند الفقهاء يعني شبْه الدلالة دون أن يرقَى إلى البيّنة الدامغة كأن يقول الجريح المحتضر فلان قتلني،دون أن يكون شاهد آخر على ذلك!... وقد وقع التوسّع في معنى هذا اللفظ،في حياتنا المعاصرة،فاستُعمل لتوسيخ البيئة الطبيعيّة المحيطة بنا بفعل إجرام الإنسان بما أصاب أشجارَها من أعْثِنةٍ فذبلت وقد كانت ناضرة،وبما أصاب أمواهَها من تكدير وقد كانت فُرَاتاً،فانقلب السحر على الساحر بانتقال الأذى من المياه والأشجار إلى الإنسان فأصبح كثير من الناس يشكون الرّبو وما يماثله من علل العصر... ونحن نقلْنا معنى التلوّث من دلالته المألوفة إلى دلالة تتمحّض لِما يُصيب ألسنة العرب المعاصرين من تلطيخ للعربيّة وإيذائها بإدخال ألفاظ أجنبيّة عليها،فيكونون كمن يخلط السمّ بالعسل فيصير قاتلاً،والماء القَراح بالكدَرِ فيصير آجِناً. وقد اتّفق العرب،وهم في الأصل لا يتّفقون،مشارقة ومغاربة،على تلويث لغتهم باستعمال الألفاظ الأجنبيّة في يوميّاتهم ورسميّاتهم:المشارقة بالإنجليزيّة،والمغاربة بالفرنسيّة. وكلٌّ مَوْزورٌ غيرُ مأجور! ويعود هذا السلوك المشين إلى ضعْف الأمّة وتفكّك شخصيّتها وإحساسها بغلبة الزمان،وضعف الحال؛ فقد كان الأوروبيّون في عهد الحضارة العربيّة المزدهرة يفعلون كما نفعل نحن اليوم حين كان يُقبل علماؤُهم إلى قرطبة،مثلاً،ليتعلّموا،فكانوا حين يعودون إلى أوطانهم يستعملون ألفاظاً عربيّة في أحاديثهم ومحاضراتهم زهواً وتعالياً. والغريب في هذا الأمر،أنّنا كثيراً ما نستعمل ألفاظاً أجنبيّة لها مرادفات عربيّة في لغتنا،فنزدريها ونصرف الوهم عنها،وكأنّها في حكم العدم! وقد سمعت يوماً في أحد المجالس الرسميّة لمنظمة عربيّة مثقّفاً كبيراً يقول:«هذه الإديا» فبدأت أتساءل في نفسي،ما يريد الرجل؟فاهتديت بعد لأْي إلى أنّه كان يريد إلى:«هذه الفكرة»، إذ Idea في الإنجليزيّة هي Idée الفرنسيّة التي قد يستعملها المثقفون المغاربيّون في أحاديثهم المنكرة أيضاً! وحتّى لا يختلف المعلّقون الرياضيّون عن المثقفين والجامعيّين العرب،فإنّهم أصبحوا يقذِفون بالحُمَم الملوّثة للألسن،والمؤذية للأذواق،فهم حين يسجّل لاعب هدفاً يصرخون صراخاً محموماً باستعمالهم مصطلح «ڤول»،بدل هدف،و«فاول»،بدل خطأ،و«كارت» بدل بطاقة،و«كابتن»بدل قائد،وهلمّ جرّاً... إنّ محنتنا،يا قوم،في لغتنا فظيعة لمن بقِي له مثقال ذرّةٍ من الغيرة على أشرف لغة في الكون،لغة القرآن.