-1- مثلما عبّر مالك حداد عن (النفي داخل لغة الآخر) الذي لم يعد مُستعمِرا للأرض، لتوصيف استمرار الحضور الكولونيالي في الذات المُستعمَرَة على الرغم من التحرر المادي من المستعمِر والانفصال السياسي والثقافي الرسمي عنه - مما يؤدي إلى انتفاء "الحالة الحدّادية" بوصفها وعيا وجوديا بالمشكل الألسني وبخطورة تأثيره على المثقف -، فإن هذه الحالة تبدو وكأنها تعبير عما يمكن تسميته ب (الغربة داخل اللغة الأم) التي نتجت بصورة أو بأخرى عن الحالة الأولى، والتي أنتجت، مع الوقت، حالة من عدم إدراك الذات المنفية في لغة الآخر لضرورة العودة إلى لغة المنشأ من خلال اعتبار لغة الآخر لغة ثانية بكل بساطة، وتجاوز الطرح الأول الذي لا يزال سارِي المفعول، وهو اعتبار لغة الآخر لغة عُليا ولغة الذات لغةً دُنيا. وربما ساعدت إعادة ترتيب اللغات داخل الذات المتحررة ترتيبا واعيا بما تطرحه "المقولة الحدّادية" من إشكالات وجودية، على تجنب ما أصابها وما يصيبها الآن من فوضى ألسنية تعبر عن حالة من عدم القدرة على التخلص النهائي من صورة التعلق العاشق بلغة المستعمِر من خلال الحرص على حضورها في اللغة الأم، بسبب اعتماد رؤية إيديولوجية سياسية للتعريب - في حالة الجزائر خاصة وربما في دول المغرب العربي بدرجات متفاوتة - غطت على ما تطرحه المقولة الحدادية في عمق توغلها في الذات المستعمرَة والمستلبة ألسُنياًّ، بصورة لا يسهل بعدها التحرر الألسني من المستعمِر ببرامج تعريب استعجالية خاضعة في مجملها لظرفية الطرح المرتبط بالمصالح السياسية الضيقة وبالرؤى الإيديولوجية المتحيّزة. وبين (النفي داخل لغة الآخر) و(الغربة داخل اللغة الأم) كان لا بد للفجوة الألسنية أن تجد مساحة جديدة لتوطين مجمل إشكالياتها القديمة، مع إضافة ما استطاع أن يُنتِجَه التعامل المصلحي مع اللغة بوصفها بيتا للوجود، من مفارقات ألسنية عممت مساحة الفجوة بين رغبة الذات المعرّبة تعريبا متسرّعا في التخلص النهائي من حالة (النفي داخل لغة الآخر)، وبين ندائها الباطن في التعلّق العاشق بلغته. فلم يكن لها في ما تتصوره حلا منتسبا، إلا التخلص من النفي بالعودة إلى الذات ولكن بلغة الآخر، مما أدى إلى حالة (الغربة في اللغة الأم) نظرا لما يُحدثه التصادم بين اللغة الأم ولغة الآخر داخل المتن الواحد، ورسخ صورة المثقف الذي لا هو بالمفرنس القادر على تحمّل تبعات المشكل الألسني كما كان الجيل الأول من المثقفين الواعين وعيا نادرا بمشكلة ثقافة الآخر وبلغته، ولا هو بالمعرب القادر على استيعاب المفاهيم الجديدة التي تنتجها ثقافة الآخر في متنه المكتوب استيعابا متأصلا في ما تتيحه اللغة الأم من قدرة على مساءلة المدافعين عنها والمتكلمين بها وإجبارهم على إنتاج المعادلات الألسنية في حقيقة قدرة اللغة الأم على إنتاجها، وفي رمزية اندراج المثقف المعرّب في تحقيق هذه القدرة الكامنة - التي لا تتحقق إلا به - في وعيه النظري بضرورة العودة الحقيقية من منفى لغة الآخر، وفي إمكانياته المعرفية والعلمية الجديرة برفع التحدي كما هو شأن اللغات الأخرى في تعاملها مع المفاهيم الحديثة التي لم تنتجها. ولعلها الحالة التي لا يمكن وصفها إلا بكلمة واحدة هي (المُعَرْنسُ) التي ربما وفّت دلالتها بتوصيف حالة المثقف المعرّب غير القادر على الكتابة بلغة الآخر، أو غير القابل للكتابة بها بسبب ما يدّعيه من انفصال إيديولوجي موقفي معها يسخره عادة لخدمة أغراض مصلحية، وهو مجرد ادعاء تكشفه حالة التعلق الشبقي بها، وغير القادر في الوقت نفسه على الكتابة بلغته وتمثل المعطى المعرفي من خلال إحياء قدرتها على استيعاب حمولاتها المعرفية استيعابا ألسُنيًّا لا يشوه بنيتها الحرفية ولا التوليدية ولا الصوتية. -2- يبقى للمثقف "المُعَرْنس" الاحتمال الوحيد الذي يستطيع أن يعبر به عن مقدار الفجوة التي تفصله عن المعطى المعرفي، وهو قدرته على ترجمة تعلّق العاشق بثقافة الآخر من خلال (تعريب) المشكل الألسني من وجهة نظر حَرْفِيّة. وذلك باستسهال النقل الحرفي للكلمات الأجنبية - الفرنسية في حالة الجزائر - من لغة الآخر إلى اللغة الأم، أي إعادة توطين مجمل الإشكاليات الألسنية المتوارثة من حالة (النفي داخل لغة الآخر) في اللغة العربية من خلال تعمّد كتابة ما تعجز الذات عن التعبير عنه بلغتها كما هو، بمعانيه ودلالاته وصورته الصوتية، بحروفٍ عربية، مما يؤدي إلى ترسيم حالة (الغربة داخل اللغة الأم) في منظومة التفكير الألسني غير القادر على التحرّر من قوة حضور لغة الآخر في المخيال الألسني للذات، ومواجهته بحلول تلفيقية - كما هي عادت التسرّع في إيجاد الحلول للمشكلات الحضارية المستعصية - تحاول التعلق بالظاهر الحداثي لثقافة الآخر ومحاولة اصطناع حداثة شكلية تُشبع رغبة الذات في رؤية نفسها حداثيّة من دون أيّ مجهود معرفي يرسخ اندراجها في هذا المسار. ربما عبرت هذه الحالة من الاستعمال بصدق عن ازدواجية داخل اللغة الواحدة. وربما عكست كذلك حالة الانفصام التي يعيشها المثقف المعرب عموما وهو يتعامل مع الثقافة الحداثية، أو مع الحداثة عموما. غير أن هذه الازدواجية تبدو: - غير متكافئة في تمثلها للغة الأخرى، نظرا للفجوة التي يوسعها وقوفه المبدئي من التعامل مع لغة الآخر برؤية منفتحة خالية من الخلفية والعقد المتوارثة من فهمه السطحي للمقولة الحدادية. وهو فهمٌ رَاكَمَ هذه العقد الظاهرة والباطنة، وعبّر في نصوصه وفي إبداعاته بطرق لا واعية عن قوة حضورها داخل الذات المُستلََبة ألسُنيًّا. - وغير متوازنة في استيعابها لمحمولات ما تنتجه الثقافة الإنسانية بلغة الآخر من قيم معرفية قد تستدعي منه الرجوع الذي لا يستطيعه أو لا يريده إلى اللغة الأصلية من أجل اكتشاف أبعادها الحقيقية. - وغير واعية بما في اللغة الأصلية من إمكانات نائمة تنتظر من يوقظها ممّن هم أقرب إلى فهم الحداثة الغربية ومعرفة روح لغتها ناهيك عن لغتها. ومن هنا تصبح هذه الازدواجية غير عادلة في تعاملها ليس مع الذات وهي تطمح إلى فهم مؤسس للمعطى الثقافي الذي تريد أن تتمثله. -3- ومن ذلك، تمثيلاً لا حصرا، استعمالُ كلمة ميكانيزمات بدل آليات، وهارمونيا بدل تآلف أو انسجام، والأنيميا بدل الافتقار (وربما كانت كلمة الافتقار أعمق في التعبير عن المقصود)، والفوبيا بدل الرّهاب، والجينيالوجيا بدل السلالة، والريطوريقا بدل البلاغة، والبراديغمات بدل الصيغ الحرفية، والنوستالجيا بدل الحنين، والميتولوجيا بدل الأسطرة، والفونيطيقي بدل الصوتي، والتيولوجي بدل اللاهوتي، والتيوقراطية بدل الحكم المطلق، والبويطيقا بدل الشعرية، والسميوطيقا بدل السيمياء، والفيلولوجيا بدل فقه اللغة، والكوسموبوليتية بدل الكونية، والكاليجرايا بدل الخطية أو الخطّانية، و الترانسندنتالي بدل التجاوزي، والفينومينولوجي بدل الظاهراتي، والدراماتورجي بدل المسرحي، والميسْيَانِيزْمْ بدل الخَلاصية.. الإستوغرافيا بدل تاريخ الشعوب، الأركيولوجيا بدل الحفريات، والإتني بدل العِرقي، والإيروسي بدل الجنسي، والإيروتيكي بدل الإغوائي، والديناميكية بدل الفاعلية، والميديائية بدل الإعلامية، والسيكوباتية بدل الصفاقة.. وهذا، ناهيك عمّا تحمله مصطلحاتٌ أخرى معروفة أصبحت، لكثرة تكرارها، جزءا لا يتجزأ من الصورة التي تعكسها البنية اللغوية للخطاب الحداثي كما يستعمله المثقف المعرّب في سعيه الشكلي الحديث لإثبات اندراجه في المعطى الثقافي المنفتح على العالم مثل الإبستمي، الإبستمولوجي، والأنطولوجي، الإيديولوجي، الستراتيجي، الجيو-ستراتيجي، السكولاستيكي، الأركيولوجي، المورفولوجي والميتافيزيقي وغيرها كثير مما لا يمكن إحصاؤه عدًّا، ولا درء حضوره الطاغي بما يتوفر له من بدائل قادرة على تجاوز ما تحمله هذه الكلمات من خصوصية كان بإمكانها أن تُدرجَ في المعنى المقصود لها لو أنها استُعمِلت بالكثرة نفسها التي استعملت بها نظيرتها الأجنبية المنقولة بحرفيتها إلى نص اللغة العربية، والمحتاجة كمرادفها في اللغة العربية، لو أننا بحثنا عنه في اللغة العربية، إلى تدقيق وشرحٍ للقراء المختصين من طرف الدارسين المختصين. -4- لا تدل هذه الحالة على انفصام الذات داخل اللغة الأم بما يرسخه فيها المثقف المعرب من فجوة ألسنية فحسب، وإنما تدل كذلك، وبسبب هذه الفجوة، على انهزام اللغة في معركتها المفاهيمية غير المتساوية مع الثقافات الأخرى بوصفها مُنتِجةً للقيم المعرفية القادرة، بفعل دقتها الاصطلاحية وعمق مدلولاتها، على قضم مساحات كبيرة من المخيال الألسني للغة الأضعف، وتحويله في اتجاه يخدم مصلحتها الإيديولوجية من خلال استعمار بنياتها اللغوية والقاموسية، فتحولها من لغة فاعلة إلى لغة تفتقد إلى العمق في التعبير عن الأفكار الحديثة، وتضطرها، من ثمة، إلى نقلها حرفيا إلى معجمها اللغوي. غير أنها تعبر في الحالتين عن مستوى من مستويات التخلف الحضاري، ولعله أخطرها، وهو التخلف الألسني في أوجهه الأكثر تناقضا مع ما يمكن أن تدعو إليه اللغة وهي تخضع لهذا التلقيم القسري لبنياتها الصوتية والمعجمية والألسنية. ولكن تدل كذلك على نكوص للمثقف النقدي الحداثي خاصة بالنظر إلى ما يُشكّله استعماله لهذه المصطلحات بحرفيتها الأجنبية من اختراق إيديولوجي - مترسخ ولكنه غير ظاهر - لا يمكّنه من تحقيق وجهة نظره بما تعكسه اللغة باعتبارها بيتا للوجود وأداة لتحقيق التفكير وإبرازه فحسب، ولكن يكشف عن هشاشة التصور الذي يربطه بلغته الأم التي يحاول أن يفكر بها، ويقنع من ثمّة خصومه التقليديين بصدقية ما يدعو إليه في خضم ما تقدمه اللغة العربية لهذا القارئ من مصطلحات تجبره على التحقق من درجة الغربة التي يعيشها هذا المثقف داخل لغته. ولمتصوِّر أن يتصوّر كيف يصبح حال النص وهو يُلغم من طرف المثقف بنسبة تفوق بكثير مقدار الملح في الطعام، فيتحول النص إلى ملح أجاج، لا لشيء إلا لتحقيق رغبة الكاتب العارمة في تأكيد سعة اطلاعه، أو عمق نظرته، أو وجاهة ما يعتقد صادقا (وهنا المشكلة!!) أنه هو الأجمل أو الأحق بأن يكون في النص الذي يريد له أن يكون صورة لرغبة في نفسه، ونسخة لصورة يريد أن يعممها على القراء من خلال فرضه لصياغة ذاتية وخاصة، تصبح فيها اللغة بين يديه حقلا حرّا يزرع فيه ما يشاء له أن يزرع ممّا اختاره للقراء، أو مما يريد أن يفرضه عليهم فرضا بطريقة وأسلوب يعبران عن هذه الفجوة الألسنية في متنه الفكري أو النقدي أو الإبداعي. ذلك أن الأمر لا يبدو في كل حالاته، إذا ما أُتيحت للقارئ المتريث تقليب أضلاعها وزواياها من كل الجهات، مجرّد تفنّج ظاهر لا يعني في ما يعنيه غير ما توحي به العلاقة "العاشقة" للغة الآخر، لا بوصفها إطارا لثقافة إنسانية أخرى، ولكن بوصفها أيقونةً مُؤثِّرةً ذات قدرة فائقة على ربط العاشق بإشعاعاتها الظاهرة، وترسيمها في دائرة التعلق النرجسي بمنطوق الآخر في موسيقية ما يمكن أن يوحي به للقارئ من انفتاح ومعرفة يصر الكاتب على تمرير معناهما من خلال توكيده على ترسيخ حرفية الكلمات الناقلة لصوت اللغة الأخرى في أذن القارئ المعرّب غير المتعوّد على سماع هذه الكلمات في حميمية ارتباطه بالنص المكتوب باللغة العربية، والجاهل بدلالات هذه الكلمات في لغتها الأصلية.