تعرف كثير من مجتمعاتنا عادة التمييز التفاضلي بين الرجل و المرأة و تؤمن بسلطوية الرجل و استضعاف المرأة ممّا ولّد عقدة تعظيم الأنا الذكورية التي –للأسف- آمنت بها حتى بعض النساء و ذلك نتيجةً لتراكمات نفسية فرضتها التقاليد و البيئة على وجه الخصوص التي رسخت الأمية و أرست طقوس تمجيد، تقديس، تبجيل و تأليه الرجل سواءً كان أبا، زوجا أو أخاً، كأنما خُلق ليستعبد وجود المرأة و يسخرها لحياته كيفما شاء. فمتى يا ترى تجد الأنثى كيانها و كينونتها الخاصة بها دون غطرسة الرجل أو تكرّمه عليها بنعمة حرية الإدراك و التفكير في فلك حدود إدراكه و مجرة عالم تفكيره و ما يؤمن به هو و قناعاته و ما يريده هو أن يكون؟ إن هذه الإشكالية الشائكة ذات الأبعاد الاجتماعية و النفسية طرحت و تجسدت أدبيا في أعمال نالت الاهتمام دراسة و ترجمة على غرار رواية "رجالي" لمليكة مقدم (ترجمة نهلة بيضون). من الملفت في هذه الرواية أنه رغم كونها جزءً من السيرة الذاتية للكاتبة إلا أنها تعالج موضوع تفضيل جنس الذكر على جنس الأنثى.و مع هذا تعمدت مليكة مقدم استعمال نصوص موازية تمجد و تشكر رجالا صادفتهم في حياتها و تركوا فيها أثرا ايجابيا: (الرجل الذي ألهمني مهنتي و هو عنوان الفصل الثالث، الرجال الذين أحببت الكتب بفضلهم و هو عنوان الفصل الحادي عشر). جاءت الرواية في ستة عشر فصلا، تبدأ ب"الغياب الأول" و تنتهي ب"الحب العتيد"، تروي أحداثا ووقائع حياتية لفتاة صحراوية تائهة في حلقة مفرغة، حائرة تعبد نرجسيتها و تبحث عن حريتها تائقة إلى تشييد محراب تمجد فيه إله أنوثتها كرد فعل متمرد ضد تأليه الذكر الذي عانت منه منذ نعومة أظافرها. إذا كان الهدف من الرواية النفسية على حسب هينكل روجر .ب "أن تجعلنا ندرك كيفية تشكل مشاعر الفرد و اتجاهاته" فإن رواية "رجالي" لها خصوصيتها في طرق باب الأدب الروائي من زاويته النفسية و الاجتماعية، بأسلوب متمرد استطاع إلى جد بعيد أن يكسر التابوهات المتعارف عليها و أن يخرج مكبوتات البطلة التي تتحدث باسم كل ذات امرأة تبحث عن "أناها الأنثوية المستقلة" أمام "أنا الرجل السلطوية العلوية"، كما نقرأ مثلا في ( و يصف لي رقصة الإغراء التي تؤديها حبيبته./ ص 160)، (و أعيش غراميتي بطريقة أو بأخرى./ص 162)، (أحب ذلك الرواح و المجئ، ذلك التنقل. إنه اختراق في تحجر العادات، في المجال الثابت للصحراء./ ص 31) تنتقد الكاتبة بشدة عادة الأمهات السيئة في تكريس حياتها و حياة بنتها خدمة للرجل في البيت، كما نقرأ على سبيل التمثيل لا الحصر: (ضاعفت أمي هجماتها...لا يلين عزمها لإقحامي في حياتها الشبيهة بحياة المحكوم بالأشغال الشاقة: "تناولي المكنسة. أحضري ثلاث صفائح من الماء. هلمي و اغسلي هذا الحفاض ! تعالي و نظفي هذه القدور، أنا بحاجة إليها. قشري الخضار. حضري الرضاعة للصغير. نظفي الآخر. أخرجي هذا البساط، و انفضيه خارجا..." لا يكف أبدا هذا النباح المبرمج لتحطيم وقت الفتاة، و عدم السماح لها بدقيقة واحدة من أجل اللهو و الاستسلام للأحلام، و إلا ارتكبت الحماقات، و اكتسبت عادات سيئة. لقد استوعبت ذلك، قراري لا يلين. لو تنازلت، فسأوقع على استسلامي. /ص 156) . لقد حاولت البطلة الهروب من واقعها المؤلم عبر المطالعة و التهام الكتب و عشق المطالعة التي أضحت ملاذها و ملجأها و متنفس تفكيرها اللذيذ، فللنصوص لذتها على حد تعبير"رولان بارث"، فالبطلة منحتها المادة المقروءة مساحة من الحرية و الراحة لا حد لها،إذ نجد في الرواية إشارة إلى ذلك في عدة مواضع نذكر منها تمثيلا (أتذوق الكلمات وحيدة، مستغرقة في كتابي. تكتسب كلمات المحظور و التمرد مذاق مسرحية هزلية فريدة من نوعها. في قلب الصمت و العزلة، تقضم هذه الكلمات في الحياة لأجلي، تلفظ منها المحرمات و الآثام و غيرها من أشكال الورع و التقى. تنقش كلمات المجهول تضاريسها على الهاويات المحيطة. لعابي يسيل، أنتشي، و أطلب المزيد./ ص 45)، ( و لكن الإشراقة الداخلية أتتني من الداخل. / ص56). إضافة لذلك فإن الروائية تعمّدت الروائية الإفصاح عن جراحها و كلومها -التي سببها تأليه الرجل- بنبرة اللوم و العتاب منذ أول جملة (أبي، الرجل الأول في حياتي، من خلالك تعلمت أن أقيس الحب بمقياس الجراح و أشكال الحرمان...حين يذبح الكلام البراءة، و ينقش من نصل الكلمات الحاد انطلاقاتها إلى الأبد، فيما بعد نتقبل هذا الوضع أو نتمرد عليه./ ص 11) و يتوالى اللوم عبر كل الرواية و يتزايد كلما تقدمنا في القراءة فنصطدم في الصفحة السابعة عشر بتنديد الطفلة لتصرفات والدها كأب تجاهها و كزوج تجاه أمها: ( ما عدت أطيق أن أسمعك تزعق في وجه أمي بسبب انحرافات سلوكي...يفقدني تلعثمها و ندمها صوابي فأنتفض و أنتصب أمامك).هكذا اكتسبت الفتاة طبع التمرد و العصيان و احترفت الرفض بأشكاله و انتفضت ضد التقاليد، مقررة مواصلة دراساتها و الهجرة إلى فرنسا، منتصرة - لو إلى حين- لحريتها و نرجسيتها و هاربة من قدرها الذي طُبع على صفحة حياتها منذ ميلادها (مليكة ستتزوج بابن عمها، المسألة محسومة منذ الولادة، و لكنها تريد أن تدرس أولا. تلك غايتها./ ص 37). في الأخير، يمكننا الجزم بأن دور الأدب يبقى فعالا في تجسيد هموم الأنثى و هواجسها مهما حاول المجتمع تجاهلها أو كبتها و حبسها في بوتقة التابوهات و العقد و الرواسب الراسخة جرّاء الأمية و الجهل و الإيمان بالتقاليد الجوفاء على حساب الإنسانية و الديانات السماوية السمحة و القيم الأخلاقية العُليا.