لم يكن أكبرنا قد بلغ السادسة عشرة بعد، ولكننا كنا جميعنا و ياللعجب مسكونين بقراءة الأدب ومصابين بلوثة الكتابة الأدبية.. قررنا ذات يوم أن نتجاوز استشارة أستاذنا عزوز في درس الأدب العربي في ما نكتبه، لم يثنِ عزمَنا ردُّ أستاذنا الذي حفظناه عن ظهر قلب، باردا وبشيء من الاستصغار: ( مازلتم صغارا،انتبهوا لدروسكم أولا ) ، وعلى إثر شعورنا ب"الإجحاف" قررنا إنشاء رابطة أدبية في الثانوية سميناها "الجبرانية " نسبة لجبران خليل جبران ، كان يوما سعيدا حينما جاءت الموافقة على طلبنا من طرف الإدارة تحت إشراف السيد المديرالعام بوزيان رحمه الله، كان ذا شخصية رائعة متوازنة بين صرامة العقل القوية في التسيير، ومشاعر الإنسانية العميقة في التعامل ، لم يوافق المدير العام على طلبنا فحسب، بل عين أستاذ اللغة العربية السيد عزوز للمتابعة والإشراف .! شعرنا بلذة انتصارنا لأول مرة وانتصار الأدب الذي نعشقه! ، مجموعة صغيرة كنا، و من أقسام مختلفة من الأدب، والعلوم، والرياضيات، التلميذ الهادئ خليل سيدهم الذي أطلقنا عليه لقب( جبران خليل وهران )، بطوله الفارع ونظارته السميكة.ثم بيننا حنيفة حمّة ذات الغرة الكثيفة، و مختاري الزين(وهو ضرير)، والزاهي كيلو، وجميلة زيار وغيرهم .. وولدتْ ( الجبرانية ) إذن، وتحت ظلالها كنا نجتمع كل مساء سبت(حيث لا دراسة في الثانوية)، كل واحد يقرأ ما كتبه خلال الأسبوع تحت لهفة اكتشافنا،وتحت سمع ونظر أستاذنا عزوز ، الحق يقال..كلما قرأتُ لرفاق الجبرانية ما كتبتُه من قصة أو شعر، إلا وانفرجت أسارير الجميع وهم يثنون عليَّ، على اللغة، والموضوع، والموقف، والأسلوب السلس الشفاف كما يسمونه .! بعد أشهر بدأت (الجبرانية) تؤتي نصوصها، وتشتهر في كنف الثانوية بين التلاميذ والأساتذة، ضاع اسمي تحت لقب "الشاعرة" وأصبحنا أدباء مستقبليين، لكن البطل يظل خليل سيدهم صاحب النظارات السميكة، الذي يعشق كتابات جبران خليل جبران، وشخصيتَه، وتاريخَه، وأوصافَه. ويبدو أن خليل سيدهم، قرأ كل ما تيسر له عنه،واستوعبه حتى أصبح شبيهه الصغير، مسكونا به، حتى أطلقنا عليه وشاع بين الجميع لقب (جبران خليل وهران ( ! . يظهر جبران خليل وهران كل صباح في الساحة بين التلاميذ، وهو يلبس بذلة تكبره قليلا،مسرحا شعره نحو الخلف، ويضع منديلا ملونا حول عنقه، ويحمل محفظة، ويتكلم بموسقة معينة، ملوحا بيده بأناقة ، وكثيرا ما يشبك أصابعَه وهو في حالة تفكير!! ، كل مساء سبت يقرأ لنا جبران خليل وهران نصوصا بديعة، كانت تأسرنا حقا لما فيها من جمال أخاذ. يسر لنا بأنها رسائله إلى الفتاة ميّ زيادة ، مَيِّهِ هو، حبه العذريّ العنيف،التي تسكن في حي مارافال ، وتدرس في "ثانوية النخيل" ، وأنه لم يرها سوى مرة واحدة بالصدفة تعبر الشارع . كان جبران خليل وهران بطل جمعيتنا( الجبرانية )بامتياز، يأسرنا ويبهرنا ويوسّع أكثر ابتسامات أستاذنا عزوز الغامضة، أستاذنا الذي أسعدنا بخبر إقامة أمسية أدبية قريبا في الثانوية يحضرها الجميع في قاعة الحفلات الكبيرة ،الخبر الذي انتشر في ثانوية لطفي مثل عطر فاتن . كل مساء يوم سبت، يقرأ جبران خليل وهران رسائله العاشقة، الملتاعة، المشتعلة عشقا وشوقا، وحنانا وحنينا والمرفوعة إلى مَيّهِ المجهولة.كل ذلك بصوت متهدج وكأنه بلغ الثمانين، وبنبراته المتأثرة المؤثرة . كنا ننصت إليه بكل جوارحنا، نتابع عن كثب محنة حكايته الجميلة، ونريد أن نصدّقها ، فقد غفرنا له كل شيء،اكتشافَنا لكتاب جبران خليل جبران اللبناني ورسائلَه لمي زيادة، وغفرنا له معرفتَنا بأن النصوص البديعة التي كان يقرأها جبران خليل وهران، ويوقّعها باسمه فنصفق له منبهرين هي لجبران خليل جبران. غفرنا له كل شيء، لأننا اكتشفنا دون أن نخبره كتبا أخرى لجبران لبنان عن الحب والإنسانية: دمعة وابتسامة، والأرواح المتمردة، والأجنحة المتكسرة، والعواصف، والنبي، وعرائس المروج، والمجنون، ورمل وزبد.. وغفرنا أيضا لجبران لبنان، ما فعله سحره الأبيض على جبران وهران .! .