عندما بلغني نعي الأديب الفنان والباحث المتميز عمر بوشموخة - عليه رحمة الله - سرعان ما عادت بي الذاكرة إلى لحظات متميزة، كنت ألتقي فيها ذلك الأديب المتميز الذي يعرفه الجميع بأخلاقه الفاضلة وداعته، ورحابة صدره، وحسه الجمالي والفني الراقي، وكلما كنت ألتقي الأستاذ بوشموخة كنت أتأكد بأنه لا يكن إلا الخير والمحبة للجميع ولا شك في أن الكثير من الأدباء والمثقفين الذين عرفوه يتذكرون كلماته الطيبة التي يشجع بها الجميع، ويثني فيها على النشاطات التي يقوم بها الكتاب الذين يعرفهم، فهو قارئ نهم، ومتابع ممتاز للحركة الأدبية والثقافية في بلادنا. لقد عرف الكثير من الأدباء والمثقفين الجزائريين الأديب عمر بوشموخة بصفته باحثا ومبدعا وإعلاميا، كما عرفوه من خلال نشاطاته ومشاركته في مختلف الملتقيات الأدبية واللقاءات الثقافية، ومن خلال مقالاته التي يكتبها في مختلف الصحف والمجلات الوطنية والعربية، فقد قرأت له مجموعة من المقالات الأدبية بمجلة “عمان” الثقافية التي تصدر عن أمانة عمان الكبرى بالأردن، فقد كان يحرص باستمرار على مراسلتها، كما اطلعت على مجموعة من مؤلفاته من بينها: “الإبداع في الفن الأدبي” و”جماليات الموسيقى العربية”، و”الصحافة والقانون”، وقد أخبرني في آخر لقاء جمعني به بأنه قد فرغ من تأليف كتاب عن الفنانة الجزائرية وردة وأغانيها الوطنية، كما حدثني في أحد لقاءاتي به عن قصته الطويلة التي كتبها عن مسقط رأسه قرية “أشموخن” التي تقع قرب الميلية بالشمال القسنطيني والتي قارن فيها بين وضعيتها إبان فترة الاحتلال الفرنسي، والتحولات التي وقعت بعد ثورة التحرير المظفرة. كان الأديب عمر بوشموخة - رحمه الله - إعلاميا في أعلى طراز الأخلاق والانضباط والاجتهاد والتفوق، حيث كان عدد كبير من المثقفين يحرصون على متابعة البرامج التي يقدمها بإذاعة عنابة، فقد عرف ببرنامجين خفيفين ومتميزين هما: “كاتب وكتاب” و”من ذاكرة الموسيقى العربية”. ولا شك في أن رحيل ذلك الأديب الفنان يترك فراغا كبيرا على مستوى الحركة الأدبية والثقافية ببلادنا، تقول عنه الأديبة زهرة بوسكين؛ “عمر الذي عاش وحيدا ورحل وحيدا، لم يكن يعبر لنا عن آلامه ومعاناته، وكان يعيش اللحظة التي يكون فيها بكل إنسانية وخفة روح، رسم الابتسامة وهو الذي أخفى الكثير من الدموع، ورسم الفرح وهو سيد الأحزان بامتياز، موجع رحيل الأصدقاء وفاجعة فاجأتنا جميعا، فمن يا ترى لا يكن المودة لعمر بوشموخة...؟ هو صديقنا جميعا وما أقسى أن نكون أصدقاء ولا نعرف معاناة بعضنا ومستجدات بعضنا ولا نسأل عن بعضنا حتى يأخذنا الموت، فننتبه أن كل شيء زائل، والبقاء للإبداع والطيبة والصفاء والإنسانية..” انتهى كلام بوسكين وقد جاء في سيرته الذاتية التي تحدث فيها عن رحلته مع الكتابة الأدبية والتي نشرها الدكتور شريبط أحمد شريبط في الكتاب الذي خصصه للحديث عن “الحركة الأدبية المعاصرة في عنابة” : “ولدت ضمن أسرة ريفية جدا... فقيرة بمالها، ولكن غنية بنفسها، أبية بشهامتها، سخية بتقديم شهدائها قربانا للوطن المقدس.. ولدت بقرية اسمها: “أشموخن” بضواحي الميلية.. قرية جبلية غابية... تستريح على كتف جبل “تاسلات” المرتفع وتحرسها أشجار عملاقة من “البلوط” تكاد تنطح السماء برؤوسها فلا تهتز إلا إذا بثها النسيم أشواقه، ولا تتبسم إلا للطيور الشادية، التي تبحث عن مأوى لها... وتحت قريتي يمر نهر “علوشة” يغسل أقدامها ويسير مرددا نشيدا حلوا في مدح نفسه لأنه يقدم ماءه للجميع بكرم وسخاء... ضمن هذه الصورة الرومانسية تزامنت صرخة ولادتي مع الرصاصات الأولى لثورتنا التحريرية، وامتزجت تلك الصرخة بدوي مدافع العدو وأزيز طائراته العسكرية لتعلن عن ميلاد فجر الحرية في أحراش بلادي... ومع تباشير الاستقلال وجدت نفسي تلميذا ضمن قسم فرنسي، كل مواد التدريس بلغة “إميل زولا”... حتى السنة الرابعة لأنتقل بعدها إلى مدرسة معربة بكاملها... وبين المرحلتين كنت منتظما بدراسة القرآن في إحدى المدارس القرآنية التي كانت منتشرة بكثرة بالناحية، وتمكنت من حفظ القرآن الكريم كاملا في سن مبكرة بحكم ذاكرتي القوية... ثم كانت مرحلة انتقالي إلى قسنطينة مدينة العلم والحضارة آنذاك... وقضيت بها ثلاث سنوات دراسة لأغادرها إلى الجزائر العاصمة كمتربص بمدرسة إطارات الشباب.. وتخرجت إطارا متخصصا في فن الموسيقى... لأنتقل بعد سنوات إلى سلك التعليم كأستاذ للغة العربية قبل أن أجد نفسي في مهنة المتاعب.. لتكتمل حقا رحلة أتعابي مع الحياة ومع الأيام وفي فجر شبيبتي استيقظت روحي على عالم الأدب.. فقد قرأت “جبران خليل جبران” و”ميخائيل نعيمة” و”المنفلوطي” و”جرجي زيدان” وملك “جبران” كل كياني آنئذ حتى أنني حفظت بعض نصوصه النثرية عن ظهر قلب وأعترف أن قراءتي المبكرة للأدب الجبراني كانت الدافع المباشر لتوجيهي نحو دوحة الأدب، وفتحت أمامي شهية المطالعة وشراهة القراءة بمفهومها الواسع فقرأت معظم الكتب والمؤلفات العربية قديمها وحديثها، وأحفظ كثيرا من النصوص النثرية، إضافة إلى حفظي لأكثر من عشرة آلاف بيت من الشعر العربي القديم منه والحديث... بدأت الكتابة مع مطلع السبعينيات ونشرت لي أول خاطرة أدبية ب”النصر” صيف 1972م تلتها محاولات أخرى متفرقة موزعة بين “النصر” و”الجزائرية”، ثم عدت إلى الاحتراف مع الحرف مع مطلع الثمانينيات بصورة دائمة متواصلة وقد وجدت تشجيعا خاصا من أستاذنا الكبير الدكتور “محي الدين عميمور” المعروف أدبيا باسم “م.. دين” وهذا من خلال رسائل خاصة تفضل بكتابتها لي منتصف الثمانينيات.. من الشخصيات الأدبية والفكرية التي استوقفتني: شخصية الأستاذ “عباس محمود العقاد” و”جبران خليل جبران” و”أبو القاسم الشابي” و”ميخائيل نعيمة”، ومن الجزائر “مفدي زكريا” و”عبد الله شريط” و”م...دين” و”مالك بن نبي”... في الأدب والشعر أنا من الداعين إلى التذوق الفني والجمالي، وأميل أكثر إلى القصائد ذات الجرس الغنائي، لذلك وجدت نفسي في قصائدي الشعرية مزيجا من “أحمد رامي” و”إبراهيم ناجي” و”الشابي” و”صالح جودت” و”علي محمود طه”... أجد راحتي النفسية حينما أخلو إلى مكتبتي الأدبية والفنية، فأقرأ... وأسمع الموسيقى... خاصة أغاني “أم كلثوم” التي أحفظها كاملة وأعزف بعضها بآلة “العود”، إضافة إلى أغاني محمد عبد الوهاب، وفريد الأطرش، وإسمهان، وماجدة الرومي وآخرين... من الشخصيات الوطنية التي تأثرت بها كثيرا، شخصية الرئيس الراحل “هواري بومدين” الذي أعتبره أعظم شخصية أنجبتها أرض الجزائر، وقد بلغ إعجابي وتأثري بهذا الرجل أنني حفظت بعض خطبه السياسية، وعندما توفي بكيته كما بكته الملايين من أبناء شعبه، وكتبت فيه قصيدة بكاء... حياتي في عمومها تتسم بشيء من الفوضى المعنوية، وإلى الآن مازلت أبحث عن نفسي في خرائط نفسي... ورغم أنني اخترت “عنابة” محطة لأتعابي، إلا أنني مازلت أبحث عن محطة في عالم المجهول!!...”. في كتابه “الصحافة والقانون” قدم الأستاذ عمر بوشموخة معالجة متميزة لمجموعة من القضايا المهمة التي تتصل بالصحافة والقانون، فهو يرسم صورة واضحة المعالم عن جملة من الموضوعات التي هي جديرة بالبحث والتنقيب والدراسة مثل “نظرية الحرية في الصحافة”و”الرقابة على الحرية الصحفية” و”القيود الواردة على حرية الصحافة” وغيرها من القضايا. عن سبب تأليفه لهذا الكتاب يقول الأستاذ بوشموخة في مقدمته: “إيمانا مني بالحاجة الماسة للثقافة القانونية عند كل ممارس لمهنة الصحافة، فقد ارتأيت من خلال هذا البحث المتواضع أن أقترب من النصوص القانونية التي تنظم المهنة الصحفية، وتفتح الطريق أمام الصحفي، لكي يعرف متى تبدأ حريته، ومتى تنتهي حدوده وهو يمارس مهنته الصحفية ما بين حقوقه وواجباته، انطلاقا من الرسالة الأمانة التي يحملها على عاتقه، لأن المهنة الصحفية إذا لم يتسلح صاحبها بما يجب من المعرفة القانونية المتصلة بنشاطه الصحفي اليومي، سوف تكون حالته قريبة من السفينة التي تفتقد إلى الربان الذي يتحكم في قيادتها، في بحر هائج متلاطم الأمواج، من هذا المفهوم تأتي أهمية الكتاب هذا في محاولة لتنوير الصحفي المهني بما تستحقه مهنته من المعارف القانونية اللازمة ولأجل تحقيق هذا الغرض عمدت إلى الرجوع إلى أهم المرجعيات القانونية التي واكبت ظهور وتطور الصحافة العربية بصفة عامة والصحافة الجزائرية بوجه خاص، وقد سعيت أن أحيط بالموضوع بما يستحقه من عناية مستفيدا من تجارب الكتاب والإعلاميين الكبار، كما راعيت في ذلك البساطة والابتعاد عن التعقيدات التي تشوب بعض الكتابات والأبحاث التي تتناول مثل هذه الموضوعات، حيث تغيب المرونة التي ينبغي أن تكون حاضرة لدى الباحثين والمهتمين. وحتى لا يكون البحث مقتصرا على الجانب القانوني وحده، وجدت أنه لابد من وضع خطة متكاملة، تتناول الوضع العام للصحافة في علاقتها بالناحية التاريخية للأمة، حتى يكون القارئ على بينة من مراحل التطور الذي عرفته الصحافة، وأدوارها التي أدتها في سبيل النهضة العربية والخروج إلى نور الحرية والتقدم وما كانت هذه المكانة التي بلغتها الصحافة الجزائرية -مثلا- لتتحقق لولا التضحيات والنضالات والتطورات التاريخية التي سبقتها بما في ذلك القوانين المتعلقة بالمهنة الصحفية، والتي تعد مكسبا نضاليا للأسرة الإعلامية رغم ما يشوبها من نقائص حينا....” ووفق رؤية الأستاذ عمر بوشموخة فالمشهد الإعلامي الجزائري هو بأمس الحاجة للتنظيم ووضع أهل المهنة أمام حقوقهم وواجباتهم وهذا ما يتحقق من خلال تعميم ثقافة القانون وتسييرها في الاتجاه الصحيح. محمد سيف الإسلام بوفلاقة / (جامعة عنابة)