وأنت ترى الزحمة المرورية التي تحدثها السيارات عند مدخل "الصافكس" –قصر المعارض- حيث يقام الصالون الدولي للكتاب هذه الأيام، وحشود الرجال والنساء وحتى الأطفال وهم يطوفون عبر الممرات الفاصلة لأجنحة العارضين والأيادي تحمل أكياس الكتب من مختلف الأنواع والأحجام، تتساءل حتما إن كان ما يقال عن غياب المقروئية في الجزائر صحيحا. كيف نتحدث عن غياب القراءة بينما مشاهد صالون الكتاب تكذّب جميع المتشائمين والمؤكدين أن الجزائريين لا يقرأون؟ من سنة إلى أخرى، تنفتح نوافذ الأمل لتتسع رقعة القراءة والقراء. ويعتبر الصالون ميدانا احتفاليا للكتاب والكتاب والقراء، حيث أضحى موعدا سنويا ينتظره جميع فاعلي هذه المادة الحاملة للثقافة والمعرفة التي لا وجود لحضارة بدونها. يبرمج الناشرون كتبهم الجديدة، يعرضونها على الرفوف البارزة، يخصصون أماكن متميزة لكتابهم ليوقعوا كتبهم للقراء، وهي ظاهرة بدأت تنتشر وتكتسي رمزية تتجذر شيئا فشيئا عند أوساط القراء. فترى الزوار يبتهجون عند رؤية كاتبهم المفضل أو شخصية من الشخصيات الثقافية المشهورة، تلك التي طالما شاهدوها على شاشات التلفزيون أو قرأوا عنها في صفحات الجرائد. يبدأون باقتناء الكتاب، ثم يقدمونه للكاتب للتوقيع مع التأكيد على ديباجة كلمة متميزة متفرّدة، ويخرجون هواتفهم أو آلاتهم التصويرية لتخليد تلك اللحظة التاريخية. ومباشرة، أو عند العودة إلى البيوت، ينشرون الصورة أو الصور على شبكة التواصل الاجتماعي "الفايسبوك" مفتخرين بانتمائهم إلى النخبة القارئة، النخبة الملتحمة مع "نجوم" الأدب والثقافة. وأغلبية الزوار، خاصة منهم الأساتذة والكتاب، يأتون من المدن الداخلية البعيدة بوسائلهم الخاصة، يكترون غرفا في الفنادق العاصمية، يقضون أياما يطوفون بين أجنحة الصالون، يشترون الكتب التي يقولون عنها أنها زادهم السنوي لسبب نأسف له جميعا: غياب المكتبات في المدن الداخلية. ولا يفوتني هنا أن أذكر الأستاذ محمد الأمين بحري من جامعة بسكرة الذي يسافر كل سنة في رحلة مكوكية لاقتناء مئونته الفكرية والأدبية، ويصور جميع كتبه وهي معروضة على سرير غرفته بالفندق، مزهوا مبتهجا كطفل صغير بألعاب العيد، لتبدأ رحلته في القراءة والنقد طوال السنة. أمين بحري نموذج لعينات كثيرة من أساتذة وكتاب يأتون من كل حدب وصوب إلى هذه الوليمة السنوية. الصالون هو أيضا مكان لقاء الأصدقاء والتعرف على أصدقاء جدد سواء كانوا من الكتاب أو أساتذة أو من محبي الكتب والقراءة. الجزائر أكبر بلد في إفريقيا، ومساحته مساحة قارة، وقد مكّنت وسائل التكنولوجيا الحديثة الجزائريين من ربط علاقات افتراضية قوية طوال السنة، وكم من كتاب وقراء يتواصلون يوميا دون أن تسنح لهم الفرصة للقاء المباشر. وها هو الصالون يوفر هذه الفرصة الثمينة، فتخلّد بالصورة الحية مزينة بابتسامات الفرح الصادق، لتبقى شاهدة على تحقيق الحلم. الصالون ليس وليمة للكتب فقط. في موازاة النشاط الكتبي، تقام ندوات متعددة ومتنوعة، تستضيف كتابا مبدعين للحديث عن كتبهم وإبداء آرائهم في شتى الموضوعات. مبادرة جيدة، ينبغي أن تثمن باستمرار. ولكن للأسف، قلة الجمهور الحاضر في تلك الندوات يجعلنا نتساءل عن جدوى تنظيمها. كيف نستقدم كاتبا –مثل الروائي الفلسطيني ربعي المدهون الحائز على جائزة البوكر للرواية العربية 2016، وقد تشرفت بتقديمه وتنشيط الجلسة- ويجد نفسه في قاعة شبة فارغة، والجمهور القليل هم غالبا من الصحفيين الباحثين عن المادة الإعلامية. ويجد الضيف نفسه، هو الذي تحمل مشقة السفر، حرجا إذ كيف يتحدث في قاعة لم يمتلئ صفها الأول. برغم أن روايته "مصائر: كونشرتو الهولوكوست والنكبة" هي رواية شاملة عن فلسطين حيث يطرح الروائي جميع الأسئلة المحتملة حول وضعية الفلسطنيين، داخل وخارج فلسطين. أليست فرصة ثمينة للنقاش؟ أظن أن غياب المكتبات في المدن الداخلية حوّل الصالون إلى سوق للتبضّع، وهو فعل محمود، وأتصوّر أنه لو كانت هذه المكتبات موجودة وتوفر الكتب طوال السنة لتحول الصالون إلى مكان للقاء والتحاور والنقاش، مثلما يحدث في صالونات الكتب العالمية، حيث يشتري القراء الكتب الموقعة ويأخذون كل وقتهم لحضور الندوات والتحدث مع الكتاب. ومع ذلك، يبقى انعقاد الصالون الدولي للكتاب وليمة سنوية مليئة بالبهجة والمرح يختلف إليها جميع محبي الكتب من جميع جهات وطننا الكبير.