كثيرة هي الأسباب التي أدت إلى تراجع وضعف المقروئية في وسط المجتمع الجزائري غير أن معظم المتتبعين للشأن الثقافي في بلادنا يؤكدون أن السبب الرئيسي لأزمة المقروئية يعود إلى غياب الإرادة السياسية لدعم وتشجيع الكتاب وإلى غياب مشروع ثقافي منسجم ،فيما يشير البعض إلى إهمال الأسرة لدورها الأساسي والمتمثل في غرس ثقافة المطالعة والبحث في روح الطفل . اقتربنا من بعض المشاركين في ملتقى " آفاق وواقع المقروئية في الجزائر" الذي نظمته الرابطة الجزائرية للثقافة والفكر الأسبوع الفارط بقاعة ابن زيدون برياض الفتح فكانت هذه الآراء : الكاتب محمد سعيدي المقروئية عادة تحصل بالتعلم ومرتبطة بالأسرة والنظام التربوي وبالمشروع الثقافي التنويري وبطبيعة المجتمع نفسه ،وعندما نطرح هذه العناوين ندرك الأسباب الحقيقية والمباشرة لضعف المقروئية عندنا ، كل عنصر من العناصر التي ذكرناها ليس مشجعا على القراءة ، إنما هو معاد لها ، فالأسرة غالبا ماتهمل هذه المهمة ، مهمة القراءة ونقصد هنا الأسرة المتعلمة والتي لها شيء من اليسر ، فهذه تحرص على اقتناء الأثاث والملبس بكل أنواعه ، ولكنها لاتهيء مكتبة لأطفالها ولامكتبة للأسرة. والمنظومة التربوية التي هي المشتلة الحقيقية ، حيث تغرس عادة أوغريزة القراءة نجدها لاتشجع على القراءة والإبداع بل تعتمد على حشو العقول بالتقليد لكل ماهو جامد عن طريق الحفظ والتلقين بعيدا عن حيوية التفكير . القطاع المهم المحفز على القراءة هو القطاع الثقافي لكن وللأسف الشديد فإنه ومنذ الاستقلال لم نوفق في بناء مشروع ثقافي منسجم يدفع إلى تطور عقلاني متحضر ، فالثقافة عندما مجرد عملية تنشيط عشوائية ، ولم تتحول إلى فعل قوي ومؤثر بإمكانه تغيير المجتمع نحو الأفضل . الشاعرة سلوى لميس قد يتعجب البعض إذا علم أن الجزائري لا يقرأ –نعم " الجزائريون لا يقرءون - بهذا المفهوم إلا النزر اليسير ، فلا يزال معدل القراءة في مستويات جد منخفضة مقارنة بالنسب العالمية فالمعدل العالمي يعطي لكل فرد أربع كتب بينما معدل قراءة الفرد العربي على المستوى العالمي هو ربع صفحة ويصل متوسط قراءة الأمريكي إلى 11 كتابا و البريطاني إلى 7 كتب .. و نصيب الجزائري نصف كتاب من الكتب التي تتوفر عليها الجزائر بحسب إحصائيات وزارة الثقافة -15 مليون كتاب – و لا نقصد هنا معدل القراءة في حد ذاته بل عدد الكتب - و إذا تأملنا جيدا الأسباب الحقيقية لذلك نجد ها تتمثل في مستوى الدخل الفردي و سعر الكتاب الباهظ و ظهور وسائل إعلامية بديلة ، إضافة إلى ضعف و هيكلة المكتبات ، فالجزائر لا تمتلك 250 مكتبة حقيقية من أصل حوالي 560 مكتبة غداة الاستقلال ويأخذ الطفل نصيبا ضئيلا منها ، ومدن مثل وهران أو عنابة أو قسنطينة بمثل كثافتها لا توجد فيها سوى مكتبة واحدة في كل مدينة منها. والحديث عن المكتبات والقراءة في القرى والمداشر يصبح نوعا من العبث . و إذا كانت الجزائر أحسن حال من بعض البلاد العربية في معدلات الأمية حيث تصل إلى 21.36 بالمائة و في المغرب تصل إلى 38.5 أما في بلد مثل السودان فتصل إلى 57 بالمائة ، وهناك اختلاف في مستويات الأمية من بلد إلى آخر وصولا إلى الأدباء والعلماء ..وقد يكون في هذه الشريحة الكثير من المتعلمين لأن الأمية بمعناها الحقيقي لا تتمثل في فك رموز الحروف أو كتابتها إنما كما قال الدكتور إبراهيم الفقي :"- فرق بين مشاهدة مسلسلات الكرتون والبقاء لساعات طويلة أمام السبايس - تون وقنوات الكرتون فهي عند البعض أفضل من أخذ قصة و قراءتها ... والشباب عندنا خاصة تلاميذ الثانوي وبدرجة أكبر طلبة الجامعات –يستمتعون بنسخ البحوث القديمة واجترارها أمام الأستاذ أو في البحوث الأكاديمية سواء في سنوات الدراسة أو عند التخرج...فالذين يحبون القراءة يهتمون بالجرائد دون المجلات والكتب، وهكذا لا يكون هناك تطور علم و لا أدب ولا فن " . و في محاولة لاستدراك هذا الواقع المرير للمقروئية في الجزائر أكدت في أكثر من مرة خليدة تومي وزيرة الثقافة أنه من الضروري إنشاء لجنة تحقيق لتولي تلك العملية ، وأكدت في افتتاح الصالون الدولي للكتاب أن المطالعة في الجزائر مسئولية المدرسة التي عليها أن تتكفل بتحبيب القراءة لدى الأطفال ، بل ونادت الصحف التي هي الأخرى معنية بالمهمة الرفع من نسب المقروئية وذلك بتخصيص مقالات يتم من خلالها تقديم الكتب الصادرة عن دور النشر الجزائرية أو الأجنبية ، و قد تكون هذه إجراءات عملية ، لكن في رأينا الأهم هو تخطي مراحل اللجان إلى مشروع مجتمعي وإستراتيجية فاعلة تتجاوز التقارير إلى رسم معالم المستقبل وتبقى شاهدة لهذه المرحلة العويصة وتبني دعائم مراحل استشرافية وذلك بتفعيل كل الإمكانيات والموارد . الدكتور فيصل الأحمر إن أجراس الخطر التي لا نفتأ نقرعها دون هوادة ولا تعب من اجل التحذير من الخطر المحدق بالقراءة وبالمقروئية، هي أجراس لا بد من إلحاقها بأجراس المدارس، لأن الإشكالية التي نعانيها لدى كبار القراء هي إشكالية نعاينها لدى صغار القراء وهي تنشأ وتنمو... إن القراءة لدى صغار المتعلمين تملك أن تكون سلوكا مملا منفرا مثلما تملك أن تكون ممارسة لذيذة جذابة إذا ما ارتبطت بعاملين هما: اللعب والتحفيز. إن الطابع المجهد للقراء غالبا ما يجعل رد الفعل المباشر إزاءها هو النفور، لذلك على المعلمين ربطها بعناصر أخرى تجعلها حلقة في سلسلة طويلة طابعها العام هو اللعب والمتعة والترفيه... وقد لوحظ الإقبال الشديد على القراءة بالتناوب بين المتعلمين والمرتبطة رأسا بالنصوص الحوارية أو المتعددة الأصوات والفقرات. من جانب مقابل توجد التحفيزات التي تخلق جو التنافس، أو التي تربط القراءة بالمكافأة قبل أن تأتي المرحلة التي تصبح فيها القراءة مستقلة بذاتها، وهي الفترة التي تظهر في المرحلة المتوسطة؛ أين يتطور المتعلم إلى نفسية مستقلة عن المحيط فيصبح الفضول دافعا للقراءة، ولذة الاكتشاف هي الجائزة ، وحرج الجهل والانغلاق هو صمام الأمان ! كما ظهر تقرير يعلن عن حالة كارثية للمقروئية في العالم، ظهر تقرير آخر يبشر بالخير... اتحاد المكتبات الأوروبية يعلن على أن عدد الروايات الصادرة خريف كل عام (تزامنا مع الدخول الاجتماعي) في تزايد مستمر منذ أكثر من عشرين سنة، وعدد النسخ المسحوبة في ازدياد مستمر، ... تقرير صادر عن أهم مجموعة في ميدان النشر في فرنسا Hachette – Havas يقول إن معدل السحب السنوي للكتاب بلغ في السنوات الخمسة الأخيرة أعلى حد ممكن، ويذكر أن معدل سحب الكتب عموما قد تصاعد من 6540 نسخة لكل كتاب إلى أكثر من 9000 نسخة من 1991 إلى 2006... وذلك لكل الكتب مختلطة سواء الكتاب العلمي المتخصص المسحوب ب1000 نسخة أو الرواية الحائزة على جائزة التي تسحب ما يعادل 400000 نسخة في المتوسط. حتى الأنترنت التي تقدم عموما على أساس كونها عدو للكتاب فالدور الذي لعبته لعب لصالح الكتاب، فالنشر أكثر إشهارا، وتقارير الكتب أكثر انتشارا، والأخبار حول الكتب أو عمليات الحث على القراءة أو التبادلات الفردية حول كتب معينة كلها لعبت دورا في الرعاية للكتاب.وحتى البيع الإليكتروني نجده يلعب دورا كبيرا في بعث الكتاب من ميتته المتوقعة سابقا. الإعلامي نور الدين باكرية أزمة المقروئية في الجزائر هل هي أزمة الكتاب ؟ هل هي أزمة القارئ؟هل هي أزمة النوعية ؟ هل هي أزمة اللغة ؟ هل هي أزمة الأسعار؟ أم هي ناتجة عن اكتساح الوسائط الإعلامية وأخذها مكانة الكتاب؟ أسباب رغم ما لها من دور إلا أنها تبدو - في رأيي المتواضع على الأقل - واهية أمام التمحيص والتدقيق، فالكتاب لست أدري أي أزمة يمكن أن يعانيها، فأزمة الكتاب هي بدعة ما أنزل بها من كتاب ! ، أما أزمة النوعية فلا أعتقد أن ما يطبع في الشرق والغرب ، وما نستورد من كتاب وما هو موجود على صفحات الواب" ليس فيه ما يروي فضول وظمأ القارئ – إن كان هذا القارئ موجودا ! أما اللغة فلا أظنها تشكل عائقا، في ظل ما هو متوفر من لغات أخرى وما هو متوفر من ترجمات ، فإذا قلنا بأن الأسعار ليست في متناول الجزائريين – ونحن نقر بتدني القدرة الشرائية للفرد الجزائري ، إلا أن ما ينفقه الجزائري على "الفليكسي" فقط يكفيه لتكوين مكتبة محترمة. إذن أين الخلل ؟ " اللي قرا واش دار": هنا تحضرني قصة رئيس بلدية في منطقية نائية من الجزائر العميقة، هذا "المير" من 62 "من السواسوندو" كما يقال ، جاءت كل التغيرات والتحولات ، وبقي الثابت الوحيد في تلك البلدية والمعروف عن ذلك "المير" أنه لا يقرأ ولا يكتب ! ومع ذلك استطاع تكوين ثروة طائلة ونفوذ مكنه من البقاء ملكا على رأس تلك البلدية وهنا افتح قوسا لأؤكد هذه القصة حقيقية. مرة من المرات أعد وليمة ودعا أعيان المنطقة بمن فيهم المثقفين ؟ ! نطق أحد المحسوبين على النخبة المثقفة " مشيتا" لهذا المير بقوله: يا سي فلا أنت – الله يبارك- لم تقرأ وعندك هذا الخير وهذا المال والنفوذ لو قرأت ماذا كنت ستصير؟فأجابه ببديهة حاضرة : كنت سأصبح حمارا مثلك !!!!!؟ وهذا هو المنطق الذي يراد تكريسه وتسويقه وجعله قاعدة ! وهذه الصورة المرسومة والمكرسة للإنسان المثقف القارئ . وحين ترى أستاذا جامعيا يبحث عن مكان في حافلة نقل الطلبة ، ويشتكي لك آخر من أزمة السكن وغيره من غلاء المعيشة ، وأكثر خريجي الجامعات دون عمل ؟ وفي الوقت ذاته ترى الكثير من المتسربين من الابتدائية "السيزيام" أصبحوا نجوما من نجوم الطرب ، ومقاولين كبارا يتنقلون في سيارت فارهة ، ثم يشترون مقاعد في البرلمان بتصدرهم قوائم أحزاب كبيرة ، وكثير من الكفاءات من المبدعين والباحثين يمشون بأحذية مهترئة ، فحينئذ بماذا تواجه ولدك اذا طلبت منه يوما الاهتمام بالعلم والدراسة " القراية" فأجابك: "اللي قرا واش دار" !!!!!!! تاجر أو هاجر ... أو احذو حذو ماجر ! هذه المقولة سمعتها الأسبوع الماضي من طالب جزائري ، قال إن أحد الشيوخ أوصى بها ولده ، وذكرتني هذه المقولة بمفارقة الشاعر عزا لدين ميهوبي كاتب الدولة للاتصال التي يقول فيها : في بلا دي لا تقل إني شاعر أوروائي مغامر لا تقل أكتب للشعب فإن الشعب لا يعرف شيئا عن قضايا النقد والفكر المعاصر إن ما يبدعه الخلق جميعا لا يساوي كعب ماجر ! وبناء على ما سبق كما يقول أهل القانون فإني أؤكد أن أزمة المقروئية رغم تأثير الوسائط الإعلامية الحديثة وتدني القدرة الشرائية وغير ذلك من الأسباب في انحصارها ، ألا أن السبب الحقيقي هو الوضعية التي آل اليه المثقف الحقيقي القارئ ولن تحل أزمة المقروئية ما لم تحل أزمة المثقف . ومن هنا أدعو الأحزاب السياسية أولا لأنها تتحمل جزءا كبيرا من هذه الأزمة بسبب بعض الممارسات كوضع المراتب الأولى في القوائم الانتخابية وفق معايير لاتخدم المجتمع ، ولذلك أدعوها إلى ضرورة إعادة النظر في الترشيح وإيكال المسؤوليات ، كما أدعو الهيئة التشريعية إلى سن قوانين تمنع تبؤ المسؤوليات لغير الأكفاء .