بعد بورندي و جنوب إفريقيا , جاء دور غامبيا التي أعلنت قرارها بالانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية يوم 25 أكتوبر الماضي , و هو انسحاب ثقيل في مدلوله إذا علمنا أن المدعية العامة الحالية لدى هذه المحكمة السيدة فاتو بن سودا هي من غامبيا و شغلت منصب وزيرة العدل ببلدها من قبل . و لذا فقد اعتبر رئيس مكتب المحامين بذات الهيئة هذا القرار الغامبي هجوما مباشرا على السلطة القضائية ,و جاء ليزيد من التخوف من انسحاب كثيف للدول الإفريقية من هذه المحكمة التي تأسست في جويلية 1998 بدعم معتبر للدول الإفريقية التي تمثل أكبر مجموعة في مجلس الأطراف للمحكمة ب34 دولة موقعة على ميثاق روما من أصل 124 إلى غاية جوان الماضي , لأن قرارات الانسحاب لا تصبح سارية المفعول إلا بعد سنة من تبليغها للأمين العام لمنظمة الأممالمتحدة . و برر وزير إعلام غامبيا شريف بوجانغ في تصريح للصحافة قرار بلاده بكون المحكمة الجنائية الدولية , تحقق فقط بالأحداث الإفريقية، وتتجاهل جرائم الحرب التي ترتكب في القارات الأخرى، وقال: "هناك ما لا يقل عن 30 بلدا غربيا ارتكب منذ تشكيل هذه المحكمة جرائم حرب بشعة ضد دول ذات سيادة ومواطنيها. ولكن لم تمثل أي من هذه الدول الغربية أمام القضاء بسبب تلك الجرائم ولم يعاقب أي من المجرمين فيها". وقد اقترح الوزير تغيير اسم المحكمة استنادا إلى ذلك من "المحكمة الجنائية الدولية" إلى "محكمة البيض(القوقازيين) الدولية" . ويذكر أنه خلال عامي 2014-2015 لجأ أكثر من 25 ألف مواطن غامبي إلى بلدان الاتحاد الأوروبي. ونتيجة لغرق حوالي 2500 من مواطني غامبيا في البحر الأبيض المتوسط خلال محاولتهم الوصول إلى أوروبا، طلب الرئيس الغامبي السيد يحيى جمعة من المحكمة الجنائية الدولية التحقيق في القضية، وطلب توجيه اتهام إلى الاتحاد الأوروبي بالتسبب في غرقهم، ولكنه لم يحصل على أي جواب. * تعددت الأسباب و الانسحاب واحد و قبل غامبيا بحوالي أسبوعين , دشنت بوجومبورا حملة الانسحابات من الجنائية الدولية ,عندما صوت البرلمان البورندي يوم 12 أكتوبر الماضي بأغلبة 94 صوتا من أصل 110 نواب, لصالح الانسحاب من المحكمة، في حين امتنع 14 نائبا عن التصويت وصوت نائبان ضد القرار، الذي لن يصبح نافذا إلا بعد أن يصادق عليه الرئيس البورندي بيار نكورونزيزا. واعتبر النائب الأول لرئيس وزراء بوروندي غاستون سنديمو أن المحكمة الجنائية الدولية "أداة سياسية لاضطهاد البلدان الإفريقية". و كان هذا البلد قد قطع مؤخرا علاقته بمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة كما منع ثلاثة محققين أمميين و أفارقة من دخول البلاد، بعد تكليفهم ببحث الوضع في بوروندي. بينما يرى المدافعون عن الجنائية الدولية , أن قرار البورندي بالانسحاب , إنما جاء كردة فعل من سلطات هذا البلد لإعلان المحكمة في أفريل الماضي عن فتح تحقيق ابتدائي حول أعمال العنف التي وقعت في بوروندي, وأسفرت عن مقتل المئات وأجبرت مئات الآلاف على الفرار من البلاد. ولا يعني انسحاب بوروندي أنها ستكون تلقائيا بمنأى عن العدالة الدولية، فإن لم يكن بمقدور المحكمة التحقيق في بلد غير عضو، فبإمكانها فعل ذلك حال حصولها على ضوء أخضر من مجلس الأمن الدولي مثلما حدث بالنسبة للنزاع في دارفور وفي ليبيا. وكانت أعمال العنف قد نشبت في بوروندي بعد أن أعلن الرئيس بيير نكورونزيزا عن نيته الترشح لفترة رئاسة ثالثة في أفريل 2015، وقد فاز بانتخابات قاطعتها المعارضة في جويلية من نفس العام، وأسفرت أعمال الشغب التي أعقبت الانتخابات عن مقتل أكثر من 500 شخص ودفعت 270 ألفا إلى الهرب خارج البلاد حسب منظمة الأممالمتحدة . * خروج بريتوريا يصدم الجنائية الدولية غير أن الصدمة التي هزت أركان المحكمة الجنائية الدولية , و جعلت بان كيمون الأمين العام لمنظمة الأممالمتحدة , يعبر عن قلقه و يدعو الدول الإفريقية إلى عدم الانسحاب من هذه الهيئة التي ترعاها منظمته , هي إعلان جنوب إفريقيا عن مغادرة المحكمة الجنائية الدولية في رسالة وجهتها يوم 19 اكتوبر الماضي إلى منظمة الأممالمتحدة . وبحسب وزير العدل في جنوب إفريقيا مايكل ماسوت، فإن أحد أسباب الانسحاب هو التعارض بين متطلبات المحكمة والقوانين الوطنية والدولية. والمثال على ذلك عندما طلبت المحكمة في السنة الماضية من جنوب إفريقيا تسليم الرئيس السوداني عمر البشير المتهم بجرائم حرب أثناء زيارته جنوب إفريقيا لحضور قمة الاتحاد الإفريقي في جوان 2015. وأضاف أن "الانسحاب من ميثاق روما (اتفاقية إنشاء المحكمة الجنائية الدولية) يلغي العوائق القانونية كافة التي تمنع جنوب إفريقيا من تنفيذ بنود الحصانة الدبلوماسية المنصوص عليها في القوانين الدولية والوطنية. متهما في نفس الصدد المحكمة الجنائية الدولية بأنها "تفضل بالتأكيد استهداف قادة في إفريقيا، واستبعاد الباقين الذين عرفوا بارتكاب هذه الفظاعات في أماكن أخرى" خارج إفريقيا. * و تهديد بالانسحاب الجماعي فمنذ صدور مذكرتي التوقيف من الجنائية الدولية ضد الرئيس السوداني عمر البشير عام 2008و2009 , أصدر الاتحاد الإفريقي بدوره قرارات متتالية تنص على عدم التعاون مع المحكمة الجنائية , وفي قمة أديسا بابا بأثيوبيا في ماي 2013 صوتت 53 دولة من أصل 54 , ضد قرار المحكمة الخاص بكينيا ,كما أكدت قمة الاتحاد الأفريقي السابعة والعشرين المنعقدة في جويلية الماضي ، بالعاصمة الرواندية كيجالي " التزامها بالإجماع الأفريقي الرافض لاستهداف المحكمة الجنائية الدولية للقادة الأفارقة،وأعلنت رفضها القاطع لاتهامات المحكمة ضد الرئيس السودانى عمر البشير، ونائب الرئيس الكيني وليام روتو ،فيما كلفت القمة لجنة وزارية للاتصال بمجلس الأمن الدولي لتوضيح مواقف الدول الأفريقية في هذا الصدد، وتقديم تقرير لقمة أديس أبابا القادمة في ينايرمن العام المقبل في هذا الشأن.، ولفت البيان الختامى للقمة إلى أنه اذا لم يستجب مجلس الأمن لإرادة الدول الأفريقية حول تلك القضية فإن على اللجنة الوزارية وضع خطة للخروج الجماعي للدول الأفريقية من المحكمة الجنائية الدولية". وتتجه كينيا أيضا نحو الانسحاب من المحكمة منذ توجيه اتهامات للرئيس أهورو كينياتا ونائبه وليام روتو بشأن صلاتهما بإراقة الدماء في الأحداث التي أعقبت الانتخابات في 2008 والتي قتل فيها ما لا يقل عن 1200 شخص. غير أن الدعاوى المرفوعة ضدهما سقطت بسبب نقص الأدلة. و من المتوقع انضمام دول إفريقية أخرى ساخطة على عمل المحكمة إلى قائمة المنسحبين على غرار أوغندا وناميبيا و تانزانيا , إذ ذكرت مصادر متطابقة , أن تقارير دبلوماسية وصلت إلى الأمين العام الأممي تضمنت إشارات إلى رغبة عديد الدول الإفريقية الانسحاب من المحكمة بعد أن اتهموها بالتحامل ضد الدول الإفريقية. و هو ما أثار مخاوف بان كي مون وصديقي كابا رئيس مجلس الدول الموقعة على معاهدة روما المؤسسة للجنائية الدولية فسلرعا إلى دعوة الدول التي تنتقد أسلوب عمل المحكمة إلى عدم الانسحاب وتسوية خلافاتها معها عن طريق الحوار. و هو ما يبدو صعب المنال بين هيئة تفضل و تعتمد المعالجة السياسية للمشاكل و النزاعات الداخلية أو البينية , كما هي حال الاتحاد الإفريقي , و بين هيئة تتبنى المعالجة القضائية لمثل هذه القضايا , كما هو شأن المحكمة الجنائية الدولية .