إذا كانت بدايات الربيع العربي قد ساعدت الأحزاب الإسلامية على التموقع الجيد للوصول إلى السلطة بحكم تنظيمها الهيكلي المحكم وانضباط أتباعها- خلافا للأطراف التي أطرت و نشطت ثورات هذا الربيع - فإن نهايات هذا الأخير المأساوية تسببت في تراجع هذه الأحزاب في أكثر من بلد عربي مما شجع الكثير من المحللين إلى الحكم على «الإسلام السياسي» بالفشل وإهدار الفرص التي أتيحت له عبر نضاله الطويل. وتقييما لتجربة الإخوان المسلمين في مصر يعتقد مدير مركز الدراسات والبحوث حول الوطن العربي ودول المتوسط في جنيف «أن الإسلاميين قد فشلوا في الحكم حيثما مروا، وفشلهم كان واضحا في ملفي الاقتصاد والأمن» بشكل خاص مضيفا «أنهم أخطأوا منذ البداية عندما حكموا على أنفسهم بالنجاح المطلق منذ (أن) نجحوا في الانتخابات فأصيبوا بحالة من العنجهية وترجموا ذلك بقوانين العزل السياسي وحرمان الدولة من كوادرها». في إشارة إلى ما وصفه خصومهم «بأخونة السلطة والمجتمع». ولم يكتف إخوان مصر بهذا الفشل السياسي بل أغرقوا بلدهم في مستنقع نزاع مسلح يستنزف دماء أبنائه و قدراته الاقتصادية , مؤكدين بذلك تجارب مأسوية سابقة ولاحقة للإسلام السياسي في العالم العربي , ولا سيما في سوريا وليبيا وبدرجة أقل تونس التي انطلقت منها شرارة الربيع العربي والتي واجه بها حزب النهضة غضبا شعبيا متزايدا على مدى ما يقرب من سنتين في الحكم اضطرته إلى اقتسام السلطة مع أحزاب أخرى بل و إلى تفكير قادته في التحول إلى حزب سياسي مدني كبقية الأحزاب. تبرير الفشل بالإفشال وحول أزمة الإسلام السياسي المعاصر، يرى الأستاذ طيبي غماري عميد كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة معسكر وباحث متخصص في الانتروبولوجيا الاجتماعية والثقافية، أن أهم ما يميز تجارب الاسلاميين خلال الخمسين عاماً الماضية، هو إخفاقهم في التحول من المعارضة الى الحكم، ففي كل مرة تنقلب القوة التنظيمية والسياسية والشعبية التي يتمتعون بها في المعارضة إلى ضعف، وغالباً ما يتحولون الى التطرف ثم العنف والارهاب..." ويلاحظ الباحث في هذا الخصوص أن الإسلام السياسي استطاع منذ نشأته في الصمود في وجه أعتى الأنظمة وفي مواجهة محيط مناوئ له وعندما تساعده ظروف استثنائية (كالثورات الشعبية ) في الوصول إلى الحكم يفشل في السيطرة على زمام الأمور ويكشف عن عجز في تسيير شؤون الدولة , فينهار مشروعه وتبدأ فصول من التراجيديا الدامية . فقد أصبح فشل الإسلاميين في الحكم والتسيير، المرض المزمن الذي أضعف الإسلام السياسي . وخلافا للآراء التي ترجع هذا الفشل إلى أطراف أخرى كالنظام القائم وقوى الظل، والنخبة المناوئة. وألقى المحلل السياسي الفلسطيني عزمي بشارة باللائمة على النخب العربية التي افشلت تجربة حكم الاسلاميين في بلدان الربيع العربي قائلا في إحدى محاضراته في الموضوع لقد :«فضلت النخب المناهضة للتحول الديموقراطي (...) تعبئة الناس ضدّ الخصم (الاسلامي) لإفشاله على الحوار معه او الاكتفاء بمعارضته سياسيا". أو كالظروف غير المناسبة حسب رأي باحثين آخرين بحجة أن"الاسلاميين لم يحظوا بالفرصة كاملة لإثبات النجاح أو الفشل".باعتبار أن "هؤلاء (الإسلاميين) جاؤوا الى الحكم مباشرة بعد الثورات فوضعوا أنفسهم في فوهة المدفع مواجهين خزانا من الغضب الشعبي. خلافا لهذا الطرح الذي يريح نخب الإسلام السياسي, فإن الأستاذ طيبي غماري يحمل مسؤولية الفشل لتيارات الإسلام السياسي نفسها ملاحظا أن الإسلاميين "عجزوا عن تطوير مشروع سياسي يتوجه الى المواطنين وليس فقط الى المؤمنين". معتمدا في ذلك على فرضية استقرأها من واقع الأحزاب السياسية الإسلامية في الجزائر مفادها "أن قوة الإسلام السياسي في المعارضة تعود إلى كونه يسيِّر المؤمنين من الناشطين الإسلاميين، أما ضعفه في الحكم فيعود إلى كونه يضطر الى تسيير المواطنين الذين ليسوا بالضرورة من الناشطين ، فإخفاق الإسلاميين في تطوير نظرية سياسية تستوعب جميع المواطنين على اختلاف قيمهم ومللهم ونحلهم، وتتيح للإسلاميين الانتقال من تسيير جماعة الإسلاميين، إلى تسيير دولة مواطنين، يؤدي في النهاية إلى حتمية إخفاق الإسلام السياسي الحاكم. وتتلخص أزمة الإسلامي الذي يصل إلى الحكم في التوفيق بين طموح "جماعة نشطاء مؤمنين", في إقامة دولة إسلامية, ويرفضون تقديم أية تنازلات عن مطلبهم في بناء هذه الدولة ,و بين طموح "جماعة المواطنين" الذين ليسوا بالضرورة إسلاميين, والذين يرفضون بدورهم العيش كإسلاميين. وتشتد الأزمة عند بروز نزعة متطرفة في الجهتين يتعذر على الحاكم "الإسلامي" التعامل معها دون أن يتهم بالانحياز, وتتفاقم الأزمة إذا أبدى انحيازا لجماعته. أسباب أخرى للتراجع إلى جانب ذلك هناك من يربط بين فشل الإسلام السياسي و بين مشاركة بعض الأحزاب الإسلامية في الحكم إلى جانب السلطة القائمة مما أفقد الإسلام السياسي مصداقيته في المجتمع , و كذا تشظي الأحزاب السياسية إلى عدة حزيبات (حزبان في الجزائر حولتهما الانشقاقات إلى ثمانية أحزاب ؟) مما فرّق حتى أصوات "الإسلاميين" على هذه الأحزاب , و تسبب في تراجع تمثيلها في المجالس المنتخبة , كما أوجد مفارقة ليست في صالح الإسلام , من خلال وجود إسلاميين في الحكم , و إسلاميين في المعارضة , مما يضعف موقف الجميع , و يظهر و كأن الإسلام متعدد ,و ليس في آخر المطاف سوى مطية للوصول إلى السلطة ... وللخروج من هذا المأزق يقترح الأستاذ طيبي غماري ,إما تبني مبدإ الدولة الإسلامية (ليس داعش), أي دولة يحكمها إسلاميون و يعيش فيها إسلاميون , مع من يقبل اختيارا العيش معهم من غيرالإسلاميين, وفق مبادئ الشريعة الإسلامية . وإما تبني الدولة الوطنية التي يتعايش فيها الجميع , وعندئذ على نخب الإسلام السياسي إنتاج خطاب سياسي محض, وتطوير مشروع مجتمع متكامل يشكل الدين أحد جوانبه, لأن الإسلاميين في تجاربهم شبه الناجحة أو الفاشلة "بدل ان يركزوا على ملفات التنمية اهتموا بموضوع الهوية وتغيير أنماط المجتمعات التي حكموها فوجدوا أنفسهم يدورون في حلقة مفرغة وتدهور الأمن والاقتصاد". كما يعتقد الأستاذ طيبي غماري في دراسته لعوامل أزمة الإسلام السياسي. تحديات في الطريق ومن هذا الرأي يبقى استشراف مستقبل الأحزاب الإسلامية على المدى المنظور, تكتنفه المزيد من التحديات , أخطرها عودة المسلحين الذين قاتلوا في الشرق الأوسط , إلى بلدانهم الأصلية, واحتمال استقطابهم لجزء من القاعدة السياسية -"لأحزاب الإسلام" السياسي وانعكاس ذلك على الوضع القانوني لمثل هذه الأحزاب .و استمرار ظاهرة الإرهاب الدولي في الانتشار والتمدد بأشكال أخرى وفي مناطق أخرى من العالم, فالقاعدة نشأت في أفغانستان وانتشرت رغم مقتل زعيمها , وداعش في العراق وتمددت رغم تحالف العالم ضدها, وبوكو حرام في نيجيريا وما جاورها. وكل ذلك سيهز ثقة الدول الغربية في الأحزاب الإسلامية, فتوقف دعمها لها للوصول إلى الحكم, مما يؤخر هذا الوصول لعقود أخرى , و من التحديات الأخرى, اتخاذ الدول الغربية إجراءات وتدابير لتحصين مجتمعاتها من التطرف الديني , كتطوير "إسلام" خاص بها (وهي فكرة متداولة حاليا) و قد يصبح هذا الشكل من "الإسلام الأوروبي" , ضمن الشروط المفروضة على الدول الإسلامية في اتفاقيات الشراكة بين الطرفين . لتصدق مقولة المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله "إذا لم تتغير كما تريد أنت, فسيأتي من يغيرك كما يريد هو". وهي مقولة لا تنظر للقابلية للاستعمار فقط و إنما تنظر أيضا للقابلية للفشل والقابلية للإفشال على حد سواء, لمن يصبو لقيادة أمة مما يبطل المتحججين بنظرية المؤامرة ضد الإسلام السياسي.