انطلق الروائي السوري " حنا مينة " من موهبة إبداعية استثنائية، استطاع عبرها أن ينزل فن الرواية من عليائه، محولا إياه إلى فن شعبي مقروء بشغف، وانطلق للكتابة من خلال تجربة حياتية صبغت أجواء رواياته، حنا مينة المولود في مدينة اللاذقية عام 1924 من عائلة فقيرة، اشتغل في مهن كثيرة في بداية حياته، إذ عمل حلاقاً وحمّالاً في ميناء اللاذقية ثم احترف البحر كبحار على السفن والمراكب، ثم كتب مسلسلات إذاعية للإذاعة السورية باللغة العامية، وكذلك موظف في إحدى الجهات الحكومية، إضافة إلى كتابة المقالات الصحفية والأخبار الصغيرة في الصحف في سورية ولبنان، ثم إلى كتابة المقالات الكبيرة والقصص الصغيرة، إضافة إلى إرساله قصصه الأولى إلى الصحف السورية بعد الاستقلال في العام 1947 واستقراره في العاصمة دمشق، إذ عمل في جريدة " الإنشاء " حتى أصبح رئيس تحريرها، وكتب قصته الأولى (طفلة للبيع) عام 1946. أما روايته الأولى " المصابيح الزرق " فقد صدرت عام 1954، ولئن كان قد أكد بأنه كتب آنئذٍ روايته الثانية " الشراع والعاصفة" ، فقد جاء صدورها عام 1966 إعلاناً كبيراً عن مقومات وقسمات كبرى للعالم الروائي للكاتب، مما ستثريه الروايات التالية وتعمقه، وقد تركز أول ذلك في البحر فضاء ومعنى. مدلولات الرواية و سردية الأحداث ونلمس في أعماله البناءة، روائياً متكاملاً في تقديمه الأساسي قراءة أو على الشاشة المرئية، ثم يدخل في تفاصيل تلك الحيثيات والوقائع، فتنقلب إلى مشاهد مجزأة يختص كل جزء بمرحلة ونموذج وشرائح من الناس، ثم يعود ليظهر تكاملية العمل من جديد. إن مدلولات الرواية عند حنا مينة، هي مدلولات ترتكز على مجموعة من الدعامات المتميزة فيما يتعلق بسردية الأحداث، عقدة الأحداث، الحبكة المتعلقة بالعمل الروائي،ثم تلك المشاهد المتعلقة بالخاتمة. وتجذب أعماله، المولعون بالصورة الجميلة على حساب العنصر القصصي والدرامي، وهذه سمة مميّزة لعلاقة الشاشة بأدب حنّا مينة، فلقد كتب هذا الأخير أعمالاً قصصية أقرب إلى السيناريو منها إلى الرواية، فأقبل السينمائيّون ومن يتعاطى التلفزيون على أعمال مينة، ليصبح أكثر روائي سوري قدمت أعماله في السينما والتلفزيون. البداية السينمائية، كانت في فيلم " اليازرلي " عام 1974، عن قصة طويلة بعنوان "على الأكياس"، للمخرج العراقي قيس الزبيدي، ومدته 95 دقيقة، يكتب الناقد سعيد مراد: " إن اليارزلي ينطوي في بنائه الدرامي، على عناصر شعرية وملحمية تعتمد في بروزها على وسائل بصرية مونتاجية" ، في مكان آخر يضيف: " إن على الأكياس التي هي قصة قصيرة من السيرة الذاتية، مكتوبة بأسلوب ذكريات حارة، بسيطة، تحولت في الفيلم إلى بناء معقد يحوي معاني الإضطهاد في مجتمعنا: التخلف، الجنس، القسوة، العنف، الإستغلال" ،هذه المعاني، أراد أن يجعل منها نماذج معممة تجسدها الشخصيات التي يعبر كل منها عن واحد من تلك المعاني القيمة، وطرح ذلك علينا سلفاً، مستفيداً من بناء مسرح بريخت وهو نوع من الملحمية في التخاطب مع الناس وفي بناء العمل، كما لجأ إلى مونتاج يحاول أن لا يفسح مجالاً لتأثير عاطفي بقدر ما يقطع هذا التأثير ليتوجه إلى عقل المُشاهد، كي يحرضه على أن يتركز على هذه المعاني المجسدة، ثم يكشف عن الحقيقة الواقعية للحلم، ويرتفع بالواقع، ببعض تفاصيله مستوى الحلم، يتداخل ذلك في نسيج واحد فيجعل من الماضي، الذكريات، الحلم والواقع كلاً واحداً، وذلك بوسيلة بصرية و مونتاجية، ثم حقّق المخرج نبيل المالح فيلم " بقايا صور" في 1979، عن رواية حملت الاسم نفسه، ومدته 130 دقيقة.. وفيه عودة إلى عشرينيات القرن العشرين، حيث قصة الأب السكير الشهواني الرحالة، والأم الضعيفة الطهرانية، وحكايات الأخوات والمدرسة والخال والصراع في ريف الإسكندرون واللاذقية بين الملاكين والفلاحين، وتنهض بخاصة شخصية زنوبة الأرملة وعشيقة الأب . الحب وصبوة الحياة و المجتمع كما قدم المخرج الراحل محمد شاهين فيلم " الشمس في يوم غائم " في عام 1985 ، عن رواية تحمل أيضاً الاسم نفسه، ومدته 110 دقائق، فيه سيكون السحر في الرقص، وسيكون الحب والجنس وصبوة الحياة عبارة هذا السحر، وإذا كانت تقنية هذه الرواية قد تميزت بناء ولغة وترميزاً و أسطرة وتوقيعاً، حيث تقوم الرواية على حكايتين وهما حكاية بطل وحكاية وطن أثناء الحرب العالمية الثانية، ويعكس فسيفساء المجتمع المتنوع كما يتحدث عن علاقة الصيادين بالبحر وصراعهم مع الطبيعة القاسية، كذلك حقّق شاهين فيلماً ثانياً هو " آه يا بحر " عام 1994، المأخوذ عن رواية " الدقل"، ومدته 120 دقيقة ، وهي تمثيل كل من منى واصف، خالد تاجا، رنا جمول، جلال شموط، مازن الناطور، تدور أحداثه في نهاية الثلاثينات وبداية الأربعينات من هذا القرن، في ظل الاحتلال الفرنسي، وتبدأ الأحداث مع وصول أسرة البحار صالح حزوم من لواء إسكندرون إلى اللاذقية ومحاولة البحث عنه، حيث يحاول ابنه سعيد، اقتفاء أثره بعد أن انطلقت أكثر من إشاعة عن سبب اختفائه، ويقرر أن يصبح بحارا مثل أبيه ويتعرف على الريس عبدوش ويعمل معه في البحر، لكن عاصفة تواجه السفينة المبحرة، فهل يغرق سعيد حزوم أم ينجو؟.، وتنتقل رواية حنا مينه " العاصفة والشراع" إلى الشاشة الكبيرة على يد المخرج غسان شميط جمع الفيلم بين عالمين إبداعيين في الأدب والسينما، فتحولت الرواية إلى فيلم سينمائي، توفر له معطيات إبداعية وفنية وتقنية مختلفة، استطاع بها موازاة رواية، تميزت بعوالمها وشخصياتها وأطروحاتها وبيئاتها المتعددة، يقول شميط: "حاولنا السير مع الفكرة الأساسية التي تتلخص فيها الرواية ككل، لكننا لم نتشعب في أكثر من اتجاه، حاولنا السير بمحاذاة الشخصية الأساسية وهي البطل الشعبي الطرطوسي الذي بني عليه العمل، وقد ارتأينا إنهاء الفيلم مع نهاية العاصفة، لكونها ذروة النجاح بالنسبة إلى الشخصية المحورية، بينما تقدم الرواية أحداثاً عديدة بعد العاصفة، كذلك، اعتمد السيناريو على تقديم قصة متكاملة تدور أحداثها خلال الحرب العالمية الثانية، وركّز على علاقة بطل العمل بالبحر والتحدّيات التي تقف في وجهه». و عن البحر يقول حنا مينا : ««إن البحر كان دائما مصدر إلهامي حتى إن معظم أعمالي مبللة بمياه موجه الصاخب، لحمي سمك البحر، دمي ماؤه المالح، صراعي مع القروش كان صراع حياة، أما العواصف فقد نقشت وشما على جلدي لا أدعي الفروسية، المغامرة نعم! أجدادي بحارة هذه مهنتهم، الابن يتعلم حرفة أهله، احترفت العمل في الميناء كحمّال، وكنت كذلك بحارا ورأيت الموت في اللجة الزرقاء ولم أهبه لأن الموت جبان فأنا ولدت وفي فمي هذا الماء المالح، لكنه هذه المرة كان ملح الشقاء وملح التجارب وملح العذاب جسديا وروحيا في سبيل الحرية المقدسة صبوة البشرية إلى الخلاص، ولذلك كان بديهيا أن أطرح منذ وعيي الوجود أسئلتي على هذا الوجود وأن أتعمد في البحر بماء العاصفة وان أعاني الموت كفاحا في البر والبحر معا وما الحياة قولة الطروسي بطل الشراع والعاصفة إلا كفاح في البحر والبر وبغير انقطاع لأن ذلك قانونا من قوانين الطبيعة أمنا جميعا