يَعتبر جلُّ الصحفيين في العالم أن لهم الحق في نقد رجال ونساء السياسة، وهو موقف أشاطرهم إياه تماما؛ والدليل على ذلك أنني -طيلة رئاستي للجمهورية التونسية (2011-2014)- لم أسعَ لإيقاف أي وسيلة إعلام ولم أقاضِ صحفيا واحدا، رغم ما تعرضتُ له من حملات شنيعة ومجانية. لكن كل حق يقابله واجب، وهو في قضية الحال واجب الصحفيين تقبّل نقد رجال ونساء السياسة لهم. تفاديا لكل سوء فهم أو تأويل متسرع؛ ليُسمح لي بالتأكيد -بأقصى قدر من القوة- على أنه لا مساومة في حرية الرأي والتعبير، مهما كانت الأخطاء والتجاوزات في استعمال هذا الحق، وأنني أعلن كامل التضامن مع أي صحفي مهني وشريف في العالم يتعرض للظلم السياسي، وأخص بالذكر الصحفيين المصريين وعلى رأسهم محمود حسين. لكن الصحافة هي اليوم السلطة الرابعة، فعليها القبول بأن تحاسَب هي الأخرى على طريقة ممارستها لسلطتها، إذ لا توجد سلطة دون مسؤولية ومن ثَمّ محاسبة. المبدأ الذي تنبني عليه حرية الصحافة مضمَّن في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فالمادة (19) تقول: “لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيتَه في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود”. وفي دستور الجمهورية التونسية ينصّ الفصل (31) على أن “حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات.” ويؤكد الفصل (32) نفس المبدأ حيث “تضْمن الدولة الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة. تسعى الدولة إلى ضمان الحق في النفاذ إلى شبكات الاتصال”. ما وضعه المشرّع العالمي والمشرّع المحلي جانبا هو أن ناقل الأنباء والأفكار قد لا يكون متشبعا بالقدر الكافي من الأخلاقيات المهنية، حيث يمكنه أن يفبرك الأنباء الكاذبة وأن يخدع من يتوجه إليهم في خدمة إحدى المجموعات المتصارعة على الثروة والسلطة والاعتبار داخل المجتمع. كذلك غاب عنهما أن متلقي المعلومات قد لا يكون قادرا على فرز الغث من السمين، وأنه يمكن أن يتسمم بآراء وأفكار أبعد ما تكون عن تحقيق مصالحه، بل إنما هي في خدمة من يسمّمونه بأفكار وآراء تحقق مصالحهم هم. ويعني ذلك أنهما نسيا التركيز على حق الإنسان في الحماية من الاعتداء على العقول، مثلما نص صراحة الإعلان العالمي والدستور على حقه في الحماية من الاعتداء على الأجساد. إن إطلاقية المبادئ -أيًّا كانت- وسُمُوَّها هو مصدر قوة لأنه يضعها في مرتبة القوانين الطبيعية أو الإلهية. لكن الأمر كذلك مصدر ضعف، لأنه يُخفي كل النواحي السلبية التي سيُنتجها عند احتكاكه بطبيعة بشرية يتجاور فيها الخير والشرّ، ومجتمع تتصارع فيه قوى جبارة بكل الوسائل من أنبلها إلى أحقرها، لتحقيق مصالح شرعية أو غير شرعية. شتّان بين النظرية والواقع المرير؛ نعم هناك صحفيون شرفاء الكثير منهم قُتل وسُجن، ويجب ألا نتوقف عن دعمهم. لكن بين مجنّد الاستبداد ومجنّد المال الفاسد ومجنّد الأيديولوجيا رأينا الوظيفة النظرية المعلن عنها تضيع، بل وتنقلب إلى نقيضها. أيّ محلل منصف يستطيع القول اليوم إن الإعلام العربي -إلا من رحم ربّك وربك لم يرحم الكثيرين- يقوم بإنارة الرأي العام في كبرى مشاغله، عبر تمكينه من المعطيات التي لا يصل إليها الأفراد بجهدهم الشخصي، وأنه يمدّهم بالتحاليل النزيهة ويقدّم لهم مختلف الآراء بحيادية. وذلك لتمكينهم من أخذ أحسن القرارات المفيدة لهم وللمجتمع، دون محاولة تضليلهم أو التأثير عليهم. سيكتشف من سيدرسون تاريخ الثورات العربية كيف أن حرية الرأي والتعبير -التي جاءت بها الثورة- انقلبت وبالا عليها، وقد استخدمتها الثورة المضادة بفعالية لضرب الثورة، التي دانت لها بالوجود أصلا. مثلما سيكتشفون الدور الهائل الذي لعبه الإعلام في تفجّر هذه الثورة وتوسعها: قناة الجزيرة نموذجا، وإلى درجة كبيرة منصات التواصل الاجتماعي كإعلام بديل. يبقى أن ما سُمّي في تونس بعد الثورة إعلامَ العار، شكّل مهزلة ومأساة في آن واحد، وأنت ترى صحفيين تزلفوا عقودا لبن علي يصبحون السيف المسلول -باسم حرية الرأي والتعبير- على كل ما هو شريف ونبيل من أشخاص وقيَم وسياسات. بعد الثورة المباركة؛ تكلفت قنوات تلفزيونية وصحف بعينها وصحفيون يعرفهم في تونس القاصي والداني بتدمير الثورة عبر الكذب والإشاعات والتحقير، خدمة للمال الفاسد وأكثره آتٍ من الخارج، وتحديدا من النظام الذي آلى على نفسه تدمير الربيع العربي، أي النظام الإماراتي. ما السبب؟ ذات يوم لم يستحيِ صحفي تونسي (كان يستجوبني بمنتهى الفظاظة وقلة الأدب ورأيته فيما بعد يتمسح بمنتهى المذلة للرئيس السبسي) من القول: ماذا تنتظر من صحفي يتقاضى شهريا 600 دينار؟ هو وضعَ بهذا إصبعه على أصل الداء، أي الهشاشة الاقتصادية لأغلب الصحفيين، التي تجعلهم عرضة للابتزاز سواء من الدولة الاستبدادية أو من الديمقراطية الفاسدة. عند دخولي قصر قرطاج اكتشفت ما يسمى الصندوق الأسود وفيه مليون دينار سنويا، يتصرف فيها رئيس الدولة دون حسيب أو رقيب. وهذا المبلغ هو الذي كان يشتري به بن علي الصحفيين الذين فضحهم الكتاب الأسود (الموجود على الإنترنت). سبب ثانٍ لتفشي الخداع والتمويه والكذب والتحريض –وقد تفاقم بكيفية مذهلة مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي- هو اكتشافنا جميعا لضعف مناعة المجتمع غير المتعوّد على التمييز بين الحقيقة والإشاعة، وضعف حماية الدولة لمواطنيها من التضليل الإعلامي. المشكلة اليوم وغدا -بالنسبة لنا كعرب يتلمّسون طريقهم نحو نظام ديمقراطي حقيقي ما زال هدفا بعيدا- هي أنه تحتَ حجة إجبار الصحافة على احترام الحقيقة (وهي عادة حقيقة صاحب السلطة) تُسنّ القوانين والتشريعات للحدّ من حرية التعبير. وفي الاتجاه الآخر؛ أصبحت قوى الفساد والاستبداد بارعة كل البراعة في استعمال ما تملك من أدوات وأموال -خاصة إبان الحملات الانتخابية-تحت ستار حرية التعبير، لتضليل الشعب ودفعه نحو مزيد من الحيرة والتخبط وفقدان البوصلة، لينتهي به الأمر محبَطا وعاجزا عن تبيّن طريق خلاصه. الخطر في بدايته؛ فها هي تقنيات الذكاء الصناعي ستزيد الطين بلة، حيث يمكن للتقنيات المرتقبة محاكاة الصوت، بما يعني أنك قد ترى وتسمع خُطبا وتصريحات مزيفة لتحطيم الخصوم السياسيين، ويومها ماذا سيبقى للإعلام من مصداقية وعن أي ديمقراطية سنتحدث؟ وهنا يتضح أن فساد الإعلام هو الجزء الظاهر من جبل الجليد؛ أما تحت السطح فالقاعدة الصلبة هي الفساد المالي والفساد السياسي أما الفساد الإعلامي فهو مجرد أداة لهما، بما معناه أننا لن نقضي على الفساد في الإعلام إن لم نقضِ عليه -أو على الأقل نحاربه بفعالية وطول نفس- في السياسة والاقتصاد، وحتى في الثقافة والتديّن. كل هذا لن يقع دون ضغط من شعب المواطنين؛ أي مما يتبلور من قوى تتشكل يوما بعد يوم تحت أنظارنا في قالب منظمات المجتمع المدني والأقلام الحرة، وغدا في مؤسسات دستورية فعالة للرقابة. وفي آخر المطاف فإن الإعلام مرآة ومؤشر على وضع المجتمع والدولة. حيث لا نتصور مجتمعا سليما ودولة في خدمته قادرَين على إنتاج أو التعايش مع إعلام فاسد. والعكس بالعكس؛ مما يعني أن حالة إعلامنا اليوم ليست إلا الصورة المنفّرة لمجتمعاتنا ودولنا، وما وصلت إليه من أزمة روحية وأخلاقية، هي الأساس الذي ترتكز عليه الأزمات السياسية والاقتصادية التي تهدد وجودنا كشعوب وكأمة. أخيرا وليس آخرا؛ أهم إشكالية تتعلق بنوع معين من الإعلام هي دوره المتعاظم في رسم صورة مهلوسة عن الواقع، تفاقم صعوبة العيش لكل إنسان. إن من ينظر إلى برنامج أي قناة تلفزيونية في العالم أو يفتح أي جريدة -والأمر ليس وقفا على وسائل إعلام العرب وبقية الشعوب المتخلفة- لا يكتشف إلا المآسي والكوارث والخصومات، سواءً أكانت على مستوى شعوب أو جماعات أو أفراد. ولو طُلب من دارس من المريخ أن يكوّن فكرة عن البشرية -انطلاقا من إعلامها- لما تردّد في القول إنه أمام جنس همجي مجنون، لا يَصلُح ولا يُصلَح. لكنه لو تجاوز هذا السحاب من المعطيات الجزئية المفككة السطحية التي يعيش بها الإعلام، لاكتشف أن 99% من السبعة مليارات إنسان يعيشون في سلام، وأن الانتحار يقتل أكثر من الحروب، وأن هناك ارتفاعا متواصلا في مستوى العيش والصحة لأعداد متزايدة من البشر، وأن التقدم العلمي والتكنولوجي يتسارع بكيفية لم يسبق لها مثيل. وبالتالي؛ سيكون تقرير زائرنا المريخي مختلفا تماما، وهو يركز على أنه أمام جنس حيّ يطوّق العنف داخله في جيوب صغيرة يسعى طوال الوقت لإخماده، وأنه جنس مبدع خلاق وديناميكي بكيفية مذهلة. هذا النوع من الإعلام لا يرسم عن واقعنا إلا جزأه المظلم، باعثا في النفوس الإحباط والشكّ والخوف؛ وقد يكون هذا الأمر أخطر تبعات إعلام لا يعيش إلا على الأخبار السيئة. هذا لا يعني بالطبع أن عليه أن يتغاضى عن كل سلبيات المجتمع والكوارث التي تحيق به؛ وإلا كان هنا أيضا أداة مغالطة في الاتجاه المعاكس، كالذي تسعى إليه كل السلطات الاستبدادية لتزيين صورتها. كلّا؛ فالمطلوب من إعلام مسؤول وفي تناغم مع الواقع المعقّد هو أن يعطي للناس صورة حقيقية عن واقع معقد ومتحرك، تتجاور فيه قوى التدمير وقوى الخلق، ويكون دائم اليقظة حيال عمل القوتين. نحن بحاجة إذن إلى الاستثمار وتشجيع الإعلام الثقافي والعلمي والفني، وأن يكون لنا إعلاميون كبار يتخصصون في هذه المجالات، حتى يمكن التخفيف من سلبيات إعلام نصف الكأس الفارغ. القضية إذن أعمق من الهشاشة الاقتصادية للإعلاميين، ومن تبعيَتهم الأيديولوجية. إنها أيضا قضية رؤية وتصوّر لدور الإعلام في المجتمع، وهل هو الإثارة في كل نشرة أخبار لأن نقل حوادث الطيران والسباب المتبادل بين السياسيين ومشاكل الدول المتنافسة، أسهل بكثير من التنقيب عن الفعاليات الصامتة التي تصنع الأمل في كل لحظة وكل مكان؟ أم هو تقديم الواقع بتعقيده وديناميكيته، بحلوه ومره، بفظاعاته وروائعه؟ وهذا أمر يتطلب تغيير الرؤية والبرمجيات التي تتحكم في عقول الإعلاميين ومراجعة جذرية لدورهم في المجتمع. كذلك على الدولة الديمقراطية أن تعتبر أن عليها واجبين متلازمين: واجب حماية حرية وكرامة ومستوى عيش الإعلاميين، وذلك بكل ما يلزم من تدابير قانونية ومادية وواجب حماية المواطن من الكذب والتضليل، بما يلزم من عقوبات رادعة للمنحرفين الإعلاميين؛ وإلا فإنها فوضى العقول والقلوب التي لن تقود إلا إلى مزيد من فوضى وخراب المجتمع. الجزيرة نت الإعلام.. جزء من الحلّ أم أكبر مشكل؟ منصف المرزوقي* رئيس تونس السابق يَعتبر جلُّ الصحفيين في العالم أن لهم الحق في نقد رجال ونساء السياسة، وهو موقف أشاطرهم إياه تماما؛ والدليل على ذلك أنني -طيلة رئاستي للجمهورية التونسية (2011-2014)- لم أسعَ لإيقاف أي وسيلة إعلام ولم أقاضِ صحفيا واحدا، رغم ما تعرضتُ له من حملات شنيعة ومجانية. لكن كل حق يقابله واجب، وهو في قضية الحال واجب الصحفيين تقبّل نقد رجال ونساء السياسة لهم. تفاديا لكل سوء فهم أو تأويل متسرع؛ ليُسمح لي بالتأكيد -بأقصى قدر من القوة- على أنه لا مساومة في حرية الرأي والتعبير، مهما كانت الأخطاء والتجاوزات في استعمال هذا الحق، وأنني أعلن كامل التضامن مع أي صحفي مهني وشريف في العالم يتعرض للظلم السياسي، وأخص بالذكر الصحفيين المصريين وعلى رأسهم محمود حسين. لكن الصحافة هي اليوم السلطة الرابعة، فعليها القبول بأن تحاسَب هي الأخرى على طريقة ممارستها لسلطتها، إذ لا توجد سلطة دون مسؤولية ومن ثَمّ محاسبة. المبدأ الذي تنبني عليه حرية الصحافة مضمَّن في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فالمادة (19) تقول: “لكلِّ شخص حقُّ التمتُّع بحرِّية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحقُّ حرِّيتَه في اعتناق الآراء دون مضايقة، وفي التماس الأنباء والأفكار وتلقِّيها ونقلها إلى الآخرين، بأيَّة وسيلة ودونما اعتبار للحدود”. وفي دستور الجمهورية التونسية ينصّ الفصل (31) على أن “حرية الرأي والفكر والتعبير والإعلام والنشر مضمونة. لا يجوز ممارسة رقابة مسبقة على هذه الحريات.” ويؤكد الفصل (32) نفس المبدأ حيث “تضْمن الدولة الحق في الإعلام والحق في النفاذ إلى المعلومة. تسعى الدولة إلى ضمان الحق في النفاذ إلى شبكات الاتصال”. ما وضعه المشرّع العالمي والمشرّع المحلي جانبا هو أن ناقل الأنباء والأفكار قد لا يكون متشبعا بالقدر الكافي من الأخلاقيات المهنية، حيث يمكنه أن يفبرك الأنباء الكاذبة وأن يخدع من يتوجه إليهم في خدمة إحدى المجموعات المتصارعة على الثروة والسلطة والاعتبار داخل المجتمع. كذلك غاب عنهما أن متلقي المعلومات قد لا يكون قادرا على فرز الغث من السمين، وأنه يمكن أن يتسمم بآراء وأفكار أبعد ما تكون عن تحقيق مصالحه، بل إنما هي في خدمة من يسمّمونه بأفكار وآراء تحقق مصالحهم هم. ويعني ذلك أنهما نسيا التركيز على حق الإنسان في الحماية من الاعتداء على العقول، مثلما نص صراحة الإعلان العالمي والدستور على حقه في الحماية من الاعتداء على الأجساد. إن إطلاقية المبادئ -أيًّا كانت- وسُمُوَّها هو مصدر قوة لأنه يضعها في مرتبة القوانين الطبيعية أو الإلهية. لكن الأمر كذلك مصدر ضعف، لأنه يُخفي كل النواحي السلبية التي سيُنتجها عند احتكاكه بطبيعة بشرية يتجاور فيها الخير والشرّ، ومجتمع تتصارع فيه قوى جبارة بكل الوسائل من أنبلها إلى أحقرها، لتحقيق مصالح شرعية أو غير شرعية. شتّان بين النظرية والواقع المرير؛ نعم هناك صحفيون شرفاء الكثير منهم قُتل وسُجن، ويجب ألا نتوقف عن دعمهم. لكن بين مجنّد الاستبداد ومجنّد المال الفاسد ومجنّد الأيديولوجيا رأينا الوظيفة النظرية المعلن عنها تضيع، بل وتنقلب إلى نقيضها. أيّ محلل منصف يستطيع القول اليوم إن الإعلام العربي -إلا من رحم ربّك وربك لم يرحم الكثيرين- يقوم بإنارة الرأي العام في كبرى مشاغله، عبر تمكينه من المعطيات التي لا يصل إليها الأفراد بجهدهم الشخصي، وأنه يمدّهم بالتحاليل النزيهة ويقدّم لهم مختلف الآراء بحيادية. وذلك لتمكينهم من أخذ أحسن القرارات المفيدة لهم وللمجتمع، دون محاولة تضليلهم أو التأثير عليهم. سيكتشف من سيدرسون تاريخ الثورات العربية كيف أن حرية الرأي والتعبير -التي جاءت بها الثورة- انقلبت وبالا عليها، وقد استخدمتها الثورة المضادة بفعالية لضرب الثورة، التي دانت لها بالوجود أصلا. مثلما سيكتشفون الدور الهائل الذي لعبه الإعلام في تفجّر هذه الثورة وتوسعها: قناة الجزيرة نموذجا، وإلى درجة كبيرة منصات التواصل الاجتماعي كإعلام بديل. يبقى أن ما سُمّي في تونس بعد الثورة إعلامَ العار، شكّل مهزلة ومأساة في آن واحد، وأنت ترى صحفيين تزلفوا عقودا لبن علي يصبحون السيف المسلول -باسم حرية الرأي والتعبير- على كل ما هو شريف ونبيل من أشخاص وقيَم وسياسات. بعد الثورة المباركة؛ تكلفت قنوات تلفزيونية وصحف بعينها وصحفيون يعرفهم في تونس القاصي والداني بتدمير الثورة عبر الكذب والإشاعات والتحقير، خدمة للمال الفاسد وأكثره آتٍ من الخارج، وتحديدا من النظام الذي آلى على نفسه تدمير الربيع العربي، أي النظام الإماراتي. ما السبب؟ ذات يوم لم يستحيِ صحفي تونسي (كان يستجوبني بمنتهى الفظاظة وقلة الأدب ورأيته فيما بعد يتمسح بمنتهى المذلة للرئيس السبسي) من القول: ماذا تنتظر من صحفي يتقاضى شهريا 600 دينار؟ هو وضعَ بهذا إصبعه على أصل الداء، أي الهشاشة الاقتصادية لأغلب الصحفيين، التي تجعلهم عرضة للابتزاز سواء من الدولة الاستبدادية أو من الديمقراطية الفاسدة. عند دخولي قصر قرطاج اكتشفت ما يسمى الصندوق الأسود وفيه مليون دينار سنويا، يتصرف فيها رئيس الدولة دون حسيب أو رقيب. وهذا المبلغ هو الذي كان يشتري به بن علي الصحفيين الذين فضحهم الكتاب الأسود (الموجود على الإنترنت). سبب ثانٍ لتفشي الخداع والتمويه والكذب والتحريض –وقد تفاقم بكيفية مذهلة مع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي- هو اكتشافنا جميعا لضعف مناعة المجتمع غير المتعوّد على التمييز بين الحقيقة والإشاعة، وضعف حماية الدولة لمواطنيها من التضليل الإعلامي. المشكلة اليوم وغدا -بالنسبة لنا كعرب يتلمّسون طريقهم نحو نظام ديمقراطي حقيقي ما زال هدفا بعيدا- هي أنه تحتَ حجة إجبار الصحافة على احترام الحقيقة (وهي عادة حقيقة صاحب السلطة) تُسنّ القوانين والتشريعات للحدّ من حرية التعبير. وفي الاتجاه الآخر؛ أصبحت قوى الفساد والاستبداد بارعة كل البراعة في استعمال ما تملك من أدوات وأموال -خاصة إبان الحملات الانتخابية-تحت ستار حرية التعبير، لتضليل الشعب ودفعه نحو مزيد من الحيرة والتخبط وفقدان البوصلة، لينتهي به الأمر محبَطا وعاجزا عن تبيّن طريق خلاصه. الخطر في بدايته؛ فها هي تقنيات الذكاء الصناعي ستزيد الطين بلة، حيث يمكن للتقنيات المرتقبة محاكاة الصوت، بما يعني أنك قد ترى وتسمع خُطبا وتصريحات مزيفة لتحطيم الخصوم السياسيين، ويومها ماذا سيبقى للإعلام من مصداقية وعن أي ديمقراطية سنتحدث؟ وهنا يتضح أن فساد الإعلام هو الجزء الظاهر من جبل الجليد؛ أما تحت السطح فالقاعدة الصلبة هي الفساد المالي والفساد السياسي أما الفساد الإعلامي فهو مجرد أداة لهما، بما معناه أننا لن نقضي على الفساد في الإعلام إن لم نقضِ عليه -أو على الأقل نحاربه بفعالية وطول نفس- في السياسة والاقتصاد، وحتى في الثقافة والتديّن. كل هذا لن يقع دون ضغط من شعب المواطنين؛ أي مما يتبلور من قوى تتشكل يوما بعد يوم تحت أنظارنا في قالب منظمات المجتمع المدني والأقلام الحرة، وغدا في مؤسسات دستورية فعالة للرقابة. وفي آخر المطاف فإن الإعلام مرآة ومؤشر على وضع المجتمع والدولة. حيث لا نتصور مجتمعا سليما ودولة في خدمته قادرَين على إنتاج أو التعايش مع إعلام فاسد. والعكس بالعكس؛ مما يعني أن حالة إعلامنا اليوم ليست إلا الصورة المنفّرة لمجتمعاتنا ودولنا، وما وصلت إليه من أزمة روحية وأخلاقية، هي الأساس الذي ترتكز عليه الأزمات السياسية والاقتصادية التي تهدد وجودنا كشعوب وكأمة. أخيرا وليس آخرا؛ أهم إشكالية تتعلق بنوع معين من الإعلام هي دوره المتعاظم في رسم صورة مهلوسة عن الواقع، تفاقم صعوبة العيش لكل إنسان. إن من ينظر إلى برنامج أي قناة تلفزيونية في العالم أو يفتح أي جريدة -والأمر ليس وقفا على وسائل إعلام العرب وبقية الشعوب المتخلفة- لا يكتشف إلا المآسي والكوارث والخصومات، سواءً أكانت على مستوى شعوب أو جماعات أو أفراد. ولو طُلب من دارس من المريخ أن يكوّن فكرة عن البشرية -انطلاقا من إعلامها- لما تردّد في القول إنه أمام جنس همجي مجنون، لا يَصلُح ولا يُصلَح. لكنه لو تجاوز هذا السحاب من المعطيات الجزئية المفككة السطحية التي يعيش بها الإعلام، لاكتشف أن 99% من السبعة مليارات إنسان يعيشون في سلام، وأن الانتحار يقتل أكثر من الحروب، وأن هناك ارتفاعا متواصلا في مستوى العيش والصحة لأعداد متزايدة من البشر، وأن التقدم العلمي والتكنولوجي يتسارع بكيفية لم يسبق لها مثيل. وبالتالي؛ سيكون تقرير زائرنا المريخي مختلفا تماما، وهو يركز على أنه أمام جنس حيّ يطوّق العنف داخله في جيوب صغيرة يسعى طوال الوقت لإخماده، وأنه جنس مبدع خلاق وديناميكي بكيفية مذهلة. هذا النوع من الإعلام لا يرسم عن واقعنا إلا جزأه المظلم، باعثا في النفوس الإحباط والشكّ والخوف؛ وقد يكون هذا الأمر أخطر تبعات إعلام لا يعيش إلا على الأخبار السيئة. هذا لا يعني بالطبع أن عليه أن يتغاضى عن كل سلبيات المجتمع والكوارث التي تحيق به؛ وإلا كان هنا أيضا أداة مغالطة في الاتجاه المعاكس، كالذي تسعى إليه كل السلطات الاستبدادية لتزيين صورتها. كلّا؛ فالمطلوب من إعلام مسؤول وفي تناغم مع الواقع المعقّد هو أن يعطي للناس صورة حقيقية عن واقع معقد ومتحرك، تتجاور فيه قوى التدمير وقوى الخلق، ويكون دائم اليقظة حيال عمل القوتين. نحن بحاجة إذن إلى الاستثمار وتشجيع الإعلام الثقافي والعلمي والفني، وأن يكون لنا إعلاميون كبار يتخصصون في هذه المجالات، حتى يمكن التخفيف من سلبيات إعلام نصف الكأس الفارغ. القضية إذن أعمق من الهشاشة الاقتصادية للإعلاميين، ومن تبعيَتهم الأيديولوجية. إنها أيضا قضية رؤية وتصوّر لدور الإعلام في المجتمع، وهل هو الإثارة في كل نشرة أخبار لأن نقل حوادث الطيران والسباب المتبادل بين السياسيين ومشاكل الدول المتنافسة، أسهل بكثير من التنقيب عن الفعاليات الصامتة التي تصنع الأمل في كل لحظة وكل مكان؟ أم هو تقديم الواقع بتعقيده وديناميكيته، بحلوه ومره، بفظاعاته وروائعه؟ وهذا أمر يتطلب تغيير الرؤية والبرمجيات التي تتحكم في عقول الإعلاميين ومراجعة جذرية لدورهم في المجتمع. كذلك على الدولة الديمقراطية أن تعتبر أن عليها واجبين متلازمين: واجب حماية حرية وكرامة ومستوى عيش الإعلاميين، وذلك بكل ما يلزم من تدابير قانونية ومادية وواجب حماية المواطن من الكذب والتضليل، بما يلزم من عقوبات رادعة للمنحرفين الإعلاميين؛ وإلا فإنها فوضى العقول والقلوب التي لن تقود إلا إلى مزيد من فوضى وخراب المجتمع. الجزيرة نت