سواء تعلّق الأمر بعدم توفّر الشروط الموضوعية السانحة لها من الأساس لتوطيد قاعدة تراكمة للتحوّل الديمقراطي في المنطقة العربية، أو تركّزت المشكلة على توقّفها في منتصف الطريق ما بين الجرأة على الكفاح والجرأة على النصر، فقد أمكن محاصرة موجة 2011 -2013 الانتفاضية الشعبية العربية، بإخمادها هنا، والاستثمار في عملية مسخها لنفسها هناك. سيكون من الصعب حيال هذه الموجة تحديد "المعسكر الثوري" بدقّة، وإذا ما كان هناك أساساً من معسكر ثوريّ، لكن لن يكون صعباً، أبداً، تحديد المصادر والأنماط المختلفة للثورة المضادة، سواء المنبعثة من أزمة التوقّف في منتصف الطريق لهذه الموجة الانتفاضية الشعبية المنتشرة في سلسلة من البلدان العربية، أو المجسّدة لمفهوم "النظام القديم"، أو المشخّصة لذاتها ك"ثورة ودولة ثورية" من الأساس، وتعتبر كل ما يطرأ بعد ذلك إما يكون صالحاً بمعيار نموذجاً أو طالحاً. بشكل أساسي، مثّل التيار الإسلامي العنوان الأبرز لأزمة التوقف في منتصف الطريق، وعدم المضي بسرعة إلى التبني الناجز للمساواة في المواطنية، والتداول على السلطة، والحريات العامة والخاصة، كأساس لإنتاج عقود اجتماعية جديدة في البلدان التي شهدت تلك الموجة الانتفاضية. ومثّلت السعودية، القطب الأبرز لمفهوم "النظام القديم" بإزاء هذه الموجة، وتحرّكت بسرعة في النقطة التي اعتبرتها همزة التقاء بين الموجة الانتفاضية، ذات العمق الشعبي العربي، وبين "المدّ الإيراني": البحرين. تعقّدت الأوضاع أكثر مع بدء انتفاضة السوريين من ناحية، ومع تدخل "حلف شمال الأطلسي" في ليبيا من ناحية أخرى: لم يعد بوسع إيران أن تدعم كل الثورات، وتدخلت ضد السورية منها بإعتبارها "ثورة مضادة"، في مفارقة ممتدة منذ الثمانينيات حين يتصل الوضع بسوريا، بالنسبة لإيران، فالجمهورية التي ترفع رايات الإسلام السياسي تعاملت سواء مطلع الثمانينيات أو منذ العام 2011 مع الحالة السورية على أن الإسلام السياسي فيها "ثورة مضادة"، في حين أنّ العلمانية فيها أقرب إلى مجال التكيّف مع منظومة ولاية الفقيه. أما السعودية، المفترض أنّها قطب النظام القديم العربي الرئيسي، والتي عندها مشكلة مع مفاهيم الشرعية الثورية منذ اصطدامها بجمال عبد الناصر، فقد وجدت نفسها في الحال السورية وحدها، في موقع داعم لثورة، ما قورن بشكل أو بآخر بدعمها للمجاهدين الأفغان إبان الاجتياح السوفييتي لأفغانستان، مع فارق أنّه في الحالة السورية، تأخر "الاجتياح الروسي" إلى ما بعد أعوام من الحرب الدموية، ولم يتحول إلى "معادلة مركزية" إلا في أواخر عام 2015، وربما كانت لحظة التدخل الروسي المكثف هي اللحظة الوحيدة التي كان يمكن فيها لنظام آل الأسد أن يطاح به بالفعل في سوريا. في كل هذه اللوحات العربية المتداخلة، شكّل القرار السعودي صيف 2013 بدعم الإطاحة بحكم الرئيس محمد مرسي في مصر، والسياسة الاستئصالية ضد الإخوان المسلمين، نقطة فاصلة. مع هذا، تمكنت تركيا التي لم تعترف بتداعيات هذا الانقلاب وقطعت علاقتها بمصر من بعده، من تحييد علاقتها بالسعودية في هذا المجال. ارتكبت محمد مرسي والإخوان جملة من الأخطاء الفظيعة خلال مدة حكمهم، أبرزها عدم استيعابهم بأنّ الدولة التي انتخبوا على رأسها، برلماناً ورئاسة، لا تزال دولة العسكر، سجانيهم على امتداد العقود، ولا يمكنهم الاعتماد على هذه الدولة بإزاء معارضيهم السياسيين، بل عليهم كسب ود الرأي العام الأوسع أولا، قبل الانصراف لأي أمر آخر، وقد حدث العكس: تترّس العسكر وراء تشكل رأي عام مناهض للإخوان، ثم كان الانقضاض على الإخوان وعلى ما كان رأياً عاماً. كان التفويض الذي ناله العسكر من الجماهير بقمع الإخوان تفويضاً من الجماهير بقمعها نفسها من الآن فصاعداً. يبقى أنّ هذا الانقلاب الثاني على الديمقراطية حين تأتي بالإسلاميين للحكم، من بعد الجزائر أواخر الثمانينيات، لعب دوراً حيوياً في تزكية الخيار الآخر، خيار الكفر التام بالديمقراطية، أو بالأحرى اعتبارها هي بمثابة الكفر التام. بعد عام بالتمام على الاطاحة الشعبية – العسكرية بالرئيس الإخواني لمصر ثم الفض الدموي لاعتصام الجماهير الإسلامية، أشهر تنظيم "الدولة" بديله المقترح عن الديمقراطية الإسلامية، وعن "النظام القديم"، وعن "لا جغرافية" تنظيم القاعدة أيضاً وأيضاً، من خلال إعلان دولة الخلافة السلفية العائدة، لا خلافة الملك العضوض. وعلى الرغم من تراشق "الجميع" حول أصل "داعش" وفصلها، إلا أنّ الجميع أيضاً وجد نفسه بعد قيامها في حمأة "حرب عالمية" ضدّها، حرب استفادت منها بالنتيجة قوة إقليمية واحدة لا غير: إيران، ومنظومة المجموعات الموالية لها في المنطقة. انعدام التوازن في الإقليم لصالح إيران ترجم نفسه تحديداً تضخماً للحالة الحوثية في اليمن، من السيطرة على العاصمة صنعاء، حتى التمدد بعيداً عن الهضبة ذات الكثافة الزيدية، باتجاه المناطق الشافعية، والوصول إلى مشارف عدن. في ذلك الوقت كان الملك سلمان قد خلف أخيه، واندمجت هنا قضيتان: تأمين حركة انتقال العرش في السعودية من جيل الأخوة، من أولاد عبد العزيز، إلى جيل أحفاد عبد العزيز، وفرض خيار محدّد لهذا الإنتقال، بتأمين حركة نقل العرش من سلمان إلى نجله الثلاثيني محمد، رغم وجود أخوة لهم يتقدموه في العمر، ورغم وجود المئات من أحفاد عبد العزيز يتقدموه في العمر أيضاً، وكان لهم باع في هندسة شؤون هذا النظام والنهوض بأركانه عقوداً طويلة. لم تتمكن السعودية من تجسيد فكرة التحالف العربي الإسلامي الواسع المتدخل في اليمن، بعد تمنع باكستان وتلكؤ مصر، فدخلت في طور حرب طويلة الأمد، من دون العامل البري اللازم، الذي كان يراد له أن يكون بادئ ذي بدء باكستانياً – مصرياً، ومن دون الشراكة اليمنية الداخلية اللازمة، نظراً لاستمرار التطبيق اليمني لإستراتيجية "عزل الإخوان"، حتى تحول التحالف إلى شراكة إماراتية – سعودية، انما شراكة "لدودة" أيضاً، ذلك أنه، بخلاف السعودية، وجدت الإمارات شركاء ميدانيين لها، في اليمن الجنوبي، وعلى قاعدة تقاطعها مع طموحاتهم الفدرالية الموسعة، واشتهاؤهم لنموذجها الفدرالي هي. فكان انسداد الأفق في حرب اليمن، وتحولت الكارثة الإنسانية إلى أمر واقع عالمي بات يصعب المكابرة عليه عاماً بعد عام. صحيح أنّ حرب اليمن لم تشهد طيلة هذا الوقت تغطية تقارن بتغطية جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي في مبنى قنصلية بلاده باسطنبول، لكنها تشكّل العمق الأساسي لتأزم حركة إنتقال العرش في الداخل السعودي، ذلك أن الخطة الأولى، انتقال العرش على أساس انتصار عسكري خاطف، لم تتأمن، فصرنا إلى محاولات من نوع آخر، من المشكلة مع قطر، إلى الريتز كارلتون، إلى المشكلة مع كندا، إلى قضية الخاشقجي، وكلها تتصل بعنوان مشترك واحد: البحث عن بدائل للانتصار المفقود في حرب اليمن، بدائل يمكن على أساسها إعادة تأمين حركة انتقال العرش، وعملية إيقاف حرب اليمن في إثر ذلك. وهنا لا بد من التوقف أمام جدلية طروحات محمد بن سلمان التحديثية أو التجديدية كما توصف. فلو أمكن تظهير هذا المشروع بلغة هيغلية – ماركسية، لقلنا أنّه ثمرة كل من انهيار وقمع "الربيع العربي من تحت"، ربيع الجماهير، والبلدان المنتفضة، ثم ظهور "ربيع من فوق"، ربيع الأمير، بوصفه ثمرة احباط الربيع الأول، وثمرة النجاح الوحيدة الممكنة المتسللة منه. سعودياً، يوحي هذا "الربيع من فوق" بحجيته، من خلال تهميشه النسبي لكل من آل الشيخ وآل سعود، ويعتبر أن عليه سدّ المنافذ في ذات الوقت أمام أفكار تخريبية كالدستور، إذا ما أراد المضي قدماً. مشكلة غير تفصيلية هنا، أن هذا المشروع لم يتمكن بعد من تأمين "انتلجنتسيا" أو حتى "ميديا-لنتسيا" تسويقية له على نحو منهجي، وهنا قضية خاشقجي ستفعل فعلها بعد أكثر. هل يمكن أن تؤثر قضية خاشقجي على حركة إنتقال العرش والحفاظ عليه بالنسبة إلى ولي العهد الشاب محمد بن سلمان؟ بشكل أساسي، الغاية من أي جولة عنف، وخصوصاً التصفيات والاغتيالات، هي "تسريع" الأمور، بالسلب أو بالإيجاب بالنسبة للأطراف المعنية، فإذا كانت قادرة على حمل أعباء هذا "التسريع" نجحت في اغتنامه، وإذا لا، انقلب السحر عليها. لكن قضية خاشقجي لا تنفصل أبداً عما حدث قبل عام، في وقت واحد جرى وضع الأمراء المترددين في البيعة في "ريتز كارلتون"، والمبادرة إلى منح حريات لا سياسية للشباب في المملكة. خاشقجي، لا سيما في سنواته الأخيرة، تميز بأنه صحافي خرج من "الاستبلشمنت السعودي" للمناداة بشيء من الحريات السياسية، هذا من الناحية الليبرالية، وأبدى سلبيته تجاه مشهدية "الريتز كارلتون"، هذا من الناحية المحافظة. لأن ما فعله بن سلمان العام الماضي لم يكن محافظاً بالمرة: ليس فقط وضع أمير لأمراء سعوديين آخرين في الإحتجاز، بل تحكيم الأمنيين من خارج العائلة المالكة، بالعائلة المالكة. هذا هو "التطوّر الثوري" الأبرز في مجرى الأحداث. نتائجه ستكون مختلفة إذا قيست على المدى القصير أو المتوسط أو الطويل. بعد ثلاثة قرون من تأويل ميثاق الدرعية بين الإمام ابن سعود والشيخ ابن عبد الوهاب بأشكال مختلفة، وجد هناك من يقول أنّ ثمة طرف ثالث في السعودية: المنظومة الأمنية مستقلة بذاتها عن آل سعود، وآل الشيخ، وفرد بطموحات بونابرتية يتعامل مع هذه المنظومة على أنها رافعته، ويتوجب عليه في الوقت نفسه، التضحية ببعض عناصر هذه المنظومة، بعد قضية خاشقجي. وضع كهذا لا يمكن استشراف تداعياته على المدى القصير، لكنه لا يوحي بأن توطيد قاعدة متينة لحركة انتقال العرش متوفرة. يصعب اليوم ايجاد مراكز قوى وازنة بازاء ولي العهد في العائلة الحاكمة، وكل استرسال في هذا الموضوع يبدو بلا أفق. في الوقت نفسه، تحكيم الأمنيين من غير آل سعود بآل سعود في مشهدية "الريتز"، له في تاريخ السلالات أمثلة مشابهة كثيرة، بنتائج كانت عموماً متشابهة، في آخر المطاف. القدس العربي