عدم اهتمام الإعلام الفرنسي برواية “رمال” للكاتبة الأميركية والفرنسية والمغربية السمراء أنيسة بوزيان والتي صدرت مؤخراً عن “دار موكوندوييه” غير المعروفة مقارنة بالدور المسيطرة في ساحة النشر، لا يعني أن الرواية لا تشكل إضافة أدبية نوعية، والقارئ لها يكتشف بسهولة أن توجه وموقف الروائية لا يتماشى مع السياق الفكري المهيمن اليوم في باريس إريك زمور وآلان فينكلكروت وباقي عناصر الزمرة المكونة لكتاب إعلاميين يؤمنون بنظرية الصدام الحضاري. في هذا الحديث مع أنيسة بوزيان الذي جرى حول طاولة قهوة باريسية في معهد العالم العربي، تكلمت عن روايتها وعن جوانب تتعلق بدسائس وخبايا عالم النشر في العاصمة الفرنسية حينما يخرج الكاتب العربي عن دائرة اللوبي المسيطر. _ لماذا العودة إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر اليوم، ولماذا نشرت الرواية في “دار موكوندوييه” المغمورة وليس في دار نشر باريسية معروفة؟ الظروف التي مرت بها الرواية تعد رواية بحد ذاتها، وهويتي المتنوعة والمتداخلة والقائمة على انتماء عربي وفرنسي وأميركي لا تسهل الأمر كما تعرفون. تداخل سؤاليك شكلا ومضمونا يبرر حساسية الهوية التي وظفتها في روايتي بشكل لا ينال رضى أكثر من طرف في سياق ما زال يحمل الأفكار المسبقة والخاطئة حول ما هو عربي وإسلامي حتى وإن كان الأمر يعني كاتبة بعيدة كل البعد عن جهات متطرفة. أنا مغربية وإبنة أب مغربي وأم فرنسية وولدت في الولاياتالمتحدة الأميركية وقضيت فترة طويلة كطفلة وشابة في المغرب. وإذا كانت الرواية زاخرة بالخيال وخاصة في جانبها المغربي، فإن معاناة جيهان البطلة من الإسلاموفوبيا التي انتشرت في أميركا بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر حقيقة عاشتها من خلالي كعربية ومسلمة أصبحت تُطارد في حياتها اليومية وينسب لها الإرهاب رغم أنها من أشد أعداء التطرف. بدأت فكرة الكتابة باللغة الإنكليزية عن هجمات الحادي عشر من سبتمبر تتخمر في شهر مارس عام 2002 بعد مشاركتي في ندوة حول تداعيات ذلك في جامعة إيفران المغربية، ويمكن القول إن مداخلتي يومها أمام مثقفين وكتاب من طراز جيل كيبال كانت إنطلاقة لكتابة الرواية التي لم تخرج إلى النور إلا هذه السنة. إنطلاقا من تاريخ هذه الندوة، يمكنني القول إن جيهان بطلة روايتي هي نتاج هويتي الموزعة بين المغرب الذي عشت فيه طفولتي وشبابي ثم أميركا التي أقمت فيها لاحقا وكنت شاهدة فيها أيضا على مأساة الحادي عشر من سبتمبر، ولولا هذه الثانية لما تمكنت من المزاوجة بين الفعل ورد الفعل ثقافيا وأدبيا وأيديولوجيا بالشكل الذي يفند إلصاق الإرهاب بالمسلمين والعرب الذين أمثلهم كما أمثل الأميركيين الأبرياء بمن فيهم أولئك الذين ينحدرون من أصول عربية مثلي. _انتظارك 18 عاما كاملة لكتابة رواية عن حدث عالمي هز المعمورة بشكل غير مسبوق أمر في حاجة إلى تفسير وخاصة إذا تعلق بك كأميركية وفرنسية من أصل عربي، فلماذا كل هذه المدة، وهل لعبت معطيات ما الدور الأكبر في طبخ روايتك على نار هادئة إن صح التعبير؟ نعم كانت المدة طويلة، ولكنها كانت ضرورية لتهيئة نفسي سيكولوجيا وفكريا وأدبيا وروائيا تحديدا، ولم يكن كافيا الكتابة تحت وطأة اللحظة العاطفية، وكان علي التفكير مليا والبحث في الإشكالية بشكل معمق وجاد والتزود بالأدوات الكتابية الضرورية وأخذ مسافة عقلية وعقلانية كافية أيضا للإحاطة بكل جوانب المأساة في علاقتها بخلفياتها ومعانيها وسياقها، والأهم من كل ذلك التوفيق بين طابع السيرة الذاتية والحدث المأساوي دون الوقوع في الدعاية ولكن الكتابة في إطار روائي حقيقي وبعيداً عن روح السيرة الذاتية الخالصة، وكان لدراستي الكتابة الروائية في جامعة كولومبيا ولإدوارد سعيد المفكر الفلسطيني الأصل الراحل الفضل الكبير في تغيير مسار حياتي فكريا وشخصيا وإصراري على كتابة الرواية بعد عدة محاولات متعثرة. وقد كتبت الرواية باللغة الإنكليزية ولم أتمكن من إقناع ناشرين بريطانيين بأهمية العودة إلى هجمات الحادي عشر من سبتمبر من منظور سيرتي الذاتية كمغربية الأصل، وصعب الأمر بعد أن طُلب مني حذف الجزء الخاص بالهجوم الإرهابي والتركيز على الجزء المغربي شرط تشبيب البطلة جيهان، وصعب الأمر وتعقد أكثر حينما تبين لهم أن الرواية خارقة للمستوى الروائي وهي خليط من السوسيولوجيا والأنثربولوجيا والإثنولوجيا والأيديولوجيا. الوطأة الأيديولوجية بدت للناشرين ثقيلة بصبغتها اليسارية التي جسدها مفكرون غير مسايرين للخطاب الإعلامي المهيمن على رأسهم نوعم شومسكي. وعن قصة نشري الرواية في دار النشر “موكوندوييه” المغمورة وهي غير معروفة فعلا في باريس كما قلتم، أؤكد أنني قررت نشر الرواية باللغة الفرنسية بعد أن يئست من البريطانيين من خلال صديقة ماهرة في الترجمة الأمر الذي تم قبل عرض الرواية على دار نشر فرنسية كبيرة لن أذكر اسمها إذا سمحتم لسبب شخصي. أتفهم الأمر لكن هل يمكن معرفة مبرر رفض هذه الدار الكبيرة لروايتكم؟ قيل لي إنه لا يمكن نشر الرواية التي لم تصدر بلغتها الإنكليزية الأصلية، لكن سبب الرفض يعود في ظني إلى مبرر أيديولوجي يتمثل في عدم قبول الدار الكبيرة والشهيرة لرواية لا تخدم التوجه الإعلامي المسيطر عالميا، وعرفت ذلك حينما وصلني تسريب مفاده أن روايتي تصب خارجه ولا تخدم الدار المعروفة بخطها المناقض للطرح الذي تتضمنه روايتي. لاحقاً وبفضل تشجيع طلبتي الذين أدرسهم الكتابة الأدبية تمكنت من نشر روايتي في دار نشر “لوفيناك” المغربية لكن ليس بالصيغة التي أصدرت بها روايتي في باريس، وهي الدار التي نشرت للراحلة فاطمة المرنيسي التي تأثرت بها أيضاً. معاناتي الأولى مع الناشرين البريطانيين لم تدم طويلاً بعد أن عوضت ترددهما بقبول دار “سانسدس ستون بريس” المعروفة في اسكتلندا نشر روايتي باللغة الإنكليزية. ويجدر الذكر أنني وجدت دارا باريسية معروفة قبل ذلك لنشر الرواية لكنها رفضت بحجة صدورها أولا عند ناشر مغربي. وتعززت ثقتي في نفسي مباشرة بعد نشر روايتي باللغة الإنكليزية بعد استضافتي في صالون أدنبره للكتاب وتصنيف كتابي ضمن قائمة الكتب المرشحة للحصول على جائزة أحسن رواية أولى، ومن المنتظر أن تنشر في المستقبل القريب بالولاياتالمتحدة الأميركية بدار نشر “إنتر لينك ببليشنغ” الصغيرة والمتخصصة في الثقافة العربية. .. تصاعد الإسلاموفوبيا ألا تعتقدين معي أن الصعوبة التي اعترضت طريقك لنشر الرواية باللغة الإنكليزية تأتي بعد تصاعد الإسلاموفوبيا في العالم بوجه عام ونمو قوة المحافظين بمن فيهم ترامب الذي تبنى الإرهاب من منظور يتناقض مع طرحك خلافا لكتب راجت بسبب تركيزها على الإرهاب كما تريده الدوائر الفكرية والإعلامية التابعة للوبي الصهيوني؟ أكيد. أعتقد أن طرحي الفكري في الرواية يقلق ويزعج اليمين واليمين المتطرف، وكان من الطبيعي أن تلاقي صعوبات لنشرها في سياق تتزايد فيه الإسلاموفوبيا في خلط واضح بين الإرهاب والإسلام. قبل وصول ترامب كانت وطأة التخلي عن الرواية اجتماعيا حاضرة، وكثير من الناس الذين أعرفهم كانوا غير مقتنعين بتحريك الجرح مجددا وطلبوا مني ترك الرواية التي لم تكن وقتها بالشكل الذي صدرت به اليوم. “روايتي تفنيد لنظرية الصدام الحضاري” وبعد وصول ترامب تبين أنني لم أبتكر رؤية جديدة وأنني كنت على حق بإصراري على نشرها لأن هذا الأخير جسد خطورة العنصرية التي أصبحت تطال المسلمين أكثر فأكثر، وبطلتي جيهان التي فقدت حريتها وأصبح ينظر لها كعربية ومسلمة إرهابية وليس كأميركية أكدت صحة وسلامة طرحي، وترامب لم يكن إلا نتيجة للتيار العنصري الجارف ضد الأجانب والمسلمين بوجه خاص. إن روايتي تفنيد لنظرية الصدام الحضاري التي عادت بقوة إثر الحادي عشر من سبتمبر وتمثل توازنا كان لا بد منه للخروج من شرنقة التطرف من أي جهة كان. القارئ لروايتك يكتشف في مرحلة لاحقة أن الحادي عشر من سبتمبر كان مبررا فقط لتناول سيرتك الذاتية من جهة والدفاع عن المهاجرين الذين طاردهم ترامب كما لم يفعل أي رئيس أميركي قبله، ووظفت بطلتك بشكل جيد للوقوف عند مأساة آخرى تزداد فظاعة بعد غلق حدود العالم في أوجه المهاجرين البؤساء. أليس كذلك؟ بلى، معك حق، وأعتقد أن الإنغلاق لا يساعد على محاربة الإرهاب وأميركا نفسها قامت على الاختلاط الذي نتج عن الهجرة وأنا نفسي نتيجة تعايش أفاد أميركا ولم يضرها خلافا لما يروج له أعداء المهاجرين. ولم يكن ذلك ممكنا لولا توظيفي للبطلة جيهان التي دارت حولها أحداث الرواية بتنقلها وعيشها بين المغرب والولاياتالمتحدة الأميركية. الرواية ثقافية النزعة والطابع والهدف وليست سياسية كما يبدو شكلياً. لكن هناك من يرى أنك انتظرت أكثر من اللازم للكتابة عن معنى وتداعيات الحادي عشر من سبتمبر إذا استندنا إلى الصدمة النفسية التي أصابتك وأصابت العالم الغربي بوجه خاص؟ ليس من حقي مقارنة نفسي بالروائيين الروس الكبار، لكن من حقي المتواضع أن أشير إلى أن إبداعات تولستوي ودستويفسكي لم تر النور بسرعة وكانت الحروب النابليونية خلفية لكتاباتهم في القرن الذي عاشا فيه. وكان هناك الكثير من الإثارة في مسار كتابة روايتي، ويمكن مقارنتي ببينلوب بطلة هوميروس التي كانت تخيط وتفكك ما قامت به وتعيد الخياطة في انتظار زوجها. لقد كتبت 12 رواية في رواية واحدة وكنت في كل مرة أعيد الكتابة مجددا إلى أن وجدت الصيغة الجيدة وليست المثلى حتما، وما زلت احتفظ بكل النسخ في مكتبتي. وليس البحث المضني عن الصيغة الروائية الملائمة هو الذي تسبب في طول المدة وحدها، فلقد توقفت عن الكتابة بسبب كتابتي الكثير من السيناريوهات السينمائية والقصص القصيرة، ولكن مع مرور السنوات أصبحت أشعر بوطأة طول المدة وأضحت عدم قدرتي على إتمام الرواية تعبيرا مرضيا رغم أنني غادرت نيويورك بعد ثمانية أشهر من تاريخ هجمات الحادي عشر من سبتمبر تحت وطأة الصدمة والخوف من الموت. عدت للكتابة في الدار البيضاء بعد حادث سير كاد أن يودي بحياتي، وخوفي من الموت الذي أخرجني من نيويورك لم يعد سببا يبرر ترددي في إنهاء الرواية وقبولي بالقدر أخيرا هو الذي دفعني إلى رسم جيهان في صورة بطلة لم تعد تخشى الموت كما حدث لي من قبل. .. الرواية ليست سياسية هل يزعجك الأمر إذا قلت إنه من غير الممكن أن نبرر تأخرك في إنهاء الرواية بالعوامل السيكولوجية والشخصية والسياسية وأن حاجتك للسيطرة على أدوات الكتابة الروائية اقتضت هي الأخرى وقتا معتبرا؟ لا أبداً، والسؤال في محله إذا ما عرفنا أن الرواية ليست سياسية كما يوحي موضوعها وتتضمن نفسا شعريا ونسقا موسيقيا روائيا مدروسا وواضحا، واعتقد أنني وفقت إلى حد ما في إدماج الجزء المغربي الذي كتبته في الصحراء والجزء الأميركي الذي كتبته في نيويورك على النحو الذي يضمن توازنا يحقق الأهداف الفكرية والفنية على السواء دون الإخلال بالإيقاع العام للرواية. هذا صحيح وخاصة من خلال توليفة البطلة الموزعة بين المغرب والولاياتالمتحدة، وهي التوليفة التي مكنتك من التوفيق بين نوع من السيرة الذاتية والمعالجة السياسية لإشكال الإرهاب إعتمادا على معايشتك الحدث المأساوي وانعكاساته في سياق ثقافي عدائي للعرب وللمسلمين. أكرر هنا أنني عانيت الأمرين لإيجاد هذه الصيغة روائيا وسيكولوجيا لأنه كان عليّ وأنا أكتب باللغة الإنكليزية أن اسمع صدى اللغتين العربية والفرنسية. لا بُد من القول إن قارئ روايتك باللغة الفرنسية لا يحس بأدنى تعثر في الترجمة إلى درجة توحي بأنها كتبت باللغة الفرنسية مباشرة الأمر الذي يعني أن المترجمة لعبت دورا في إنجاحها؟ لا شك أن الترجمة جيدة ولكن النص الأصلي باللغة الإنكليزية أجمل (قالت منفجرة بالضحك). صديقتي المترجمة لورانس لارسان متخصصة في الترجمة من الإنكليزية إلى اللغات الأوروبية ومعي ترجمت من الإنكليزية إلى الفرنسية. لورانس ليست مترجمة بعيدة عن العالم العربي وخاصة مصر، وعليه لم تكن ترجمتها حرفية واستطاعت أن تضفي حساسيتها الشخصية على الرواية وأن تترجم ألوانها وروحها وشاعريتها وموسيقاها الأمر الذي يؤكد صحة ملاحظتكم. أفتخر بهذه الترجمة التي أبكت أبي البالغ من العمر 92 عاما والذي قال لي ردا على سبب بكائه: “لقد أعجبتني موسيقى الرواية وروحها المغربية” وهي الروح التي دفعت ببطلتي جيهان إلى العودة إلى بلدها وإلى رمال صحرائها التي غرست فيها جسدها حتى الرأس طلبا للتطهر والولادة الجديدة وللملمة ما تكسر فيها. سؤالي الأخير يتعلق بنهاية الرواية التي كانت سعيدة ومتفائلة في خيالك ومناقضة لموت المهاجر في واقع الهجرة الحالي. لماذا هذه النهاية غير الواقعية؟ عودة جيهان إلى صحراء وطنها وليس إلى طنجة كانت نتاج مخيلتي، وتكريم بطلتي جيهان كان أيضا تكريما لأقربائي المهاجرين الذين عادوا إلى وطنهم الأصلي. كان منطلقي هو رسم عودة سعيدة بالإتفاق مع ناشري، والعودة لا تعني الفشل حتما ونهاية الحياة ويمكن للمهاجر أن يعود للانطلاق بحياة جديدة، وجيهان هي التي فرضت عليّ هذه النهاية من منطلق روائي يسمح للكاتب بالسباحة في عالم الخيال الجميل والإيجابي، ولا إبداع من دون خيال. بوعلام رمضاني// موقع عربي 21