عندما خبت أنوار المشرق عمّت الظلمات أرجاء العالم، على هذه الفكرة يبني أمين معلوف، الروائي اللبناني الفرنسي، جزءا من تصوراته لأهم أسباب حالة التفكك والبؤس التي تعيشها المجتمعات البشرية المعاصرة. معلوف ابن المشرق مقتنع بأن هذا الجزء من العالم كان قادرا على تقديم النموذج الأكمل للتعايش بين الأديان المختلفة، والقوميات والثقافات المتنوعة، ولكان حينها العالم كله، الذي يراقبها على الدوام باعتبارها مهد الديانات الكبرى والحضارات القديمة، تأثر بهذا النموذج وتبناه، وهي احتمالية ظلت قائمة حتى وقت قريب أي حتى بدايات ومنتصف القرن العشرين، لولا أن الخيارات السياسية والمسارات التي سلكتها المنطقة قادتها إلى خسارة هذا السبق، بل والانغماس في سلسلة طويلة من الصدامات بين الأديان والمذاهب والعنف الذي أدى أحيانا إلى تفكك الدول وتلاشيها. ابتداء يسجل معلوف تأملاته وتحليلاته لأحوال العالم منطلقا من تجربته الخاصة، مستعيدا الكثير من ذكرياته التي توزعت بين مصر حيث عاشت عائلة والدته، ولبنان حيث ولد وعاش جزءا من طفولته ثم سنوات شبابه الأولى. وبحكم عمل والده كصحفي وجد معلوف نفسه في وقت مبكر متابعا لكل ما يجري حوله من أحداث في زمن، كان تشهد فيه المنطقة العربية إرهاصات تحولات كبيرة. يصف معلوف لبنان ومصر ب “فراديس طفولته الضائعة”، فمصر ما قبل عبد الناصر الكوزموبوليتية والليبرالية لم تعد كذلك بعد سقوط الملكية، وهو أمر كانت أكبر آثاره السيئة من نصيب “المتمصرين” والأجانب، ودون شك من نصيب عائلته التي اضطرت لبيع كل ممتلكاتها بأبخس الأثمان ومغادرة مصر دون عودة، بعد جملة من الإجراءات الحكومية التي هدفت في مجملها لاستعادة الدولة المصرية السيطرة على موارد البلاد وأراضيها. يعرب معلوف عن تفهمه لسياقات المصلحة الوطنية التي انطلق منها عبد الناصر في العديد من قراراته، فالواقع أن حضور الرعايا الأجانب بشكل عام في مصر بني على “دعائم منخورة” تستند إلى امتيازات تعسفية جعلتهم فوق القانون، وأثارت تجاههم المشاعر السلبية المحقة. لكنه في الوقت نفسه لا يغفل عن أخطاء الزعيم “الجسيمة”، فمع مغادرة الآلاف من الأجانب والعرب من طوائف مختلفة لمصر التي عاشوا فيها لأجيال طويلة خسرت مصر، بحسب معلوف، جزءا مهما من تنوعها الحيوي وروحها العالمية، ومعها خسرت فرصا، ربما، للتطور والتواصل مع بلدان ومجتمعات غنية بثقافتها وعلومها. مع ذلك يقر معلوف بأن حكمه على عبد الناصر ظل متأرجحا بين الإعجاب والإدانة. “ففي بعض الجوانب كان عبدالناصر آخر عمالقة العالم العربي، وربما آخر فرصة سانحة لنهوضه من كبوته، ولكنه ارتكب أخطاء جسيمة للغاية وبشأن مسائل جوهرية كثيرة، فلم يخلف من حوله سوى المرارة والندم والخيبة. لقد ألغى تعددية الأحزاب لإنشاء الحزب الواحد، وكمم الصحافة التي كانت تتمتع بقدر لا بأس به من الحرية في ظل النظام السابق، واعتمد على المخابرات لإسكات خصومه، وكانت إدارته للاقتصاد المصري بيروقراطية وتفتقر إلى الكفاءة، وأخيرا مكلفة، ولقد دفعت به ديماغوجيته القومية نحو الهاوية وكل العالم العربي معه”. أما لبنان فقد شاهده معلوف وهو يحتضن بتميز لافت طوائف شتى من موارنة، ودروز، وسنة وشيعة، وروم كاثوليك، وروم أرثوذكس، وأرمن وسريان، ويهود، وعلويين، وإسماعيليين، فقد تأسس على تنظيم التعايش والمحافظة على التوازن بين كل هذه الطوائف. لكن ههنا بالضبط، على ما يبدو، كان مكمن الضعف في هذا النظام الذي لجأت فيه كل طائفة للاستقواء بحليف خارجي يحميها ويعزز موقعها في الداخل، ليقضي بعد ذلك نظام المحاصصة السياسية على أي أمل بتطور هذا التعايش إلى نموذج حضاري، فبدلا من “تقليص المنافسة بين الطوائف.. والتخفيف من حدة التوترات، وتعزيز الشعور لدى المواطنين بالانتماء إلى وطن لا طائفة.. حصل العكس. فالمواطنون عوضا عن الالتفات نحو الدولة للحصول على حقوقهم، أصبحوا يرون أنه من الأجدى لهم المرور بزعماء طوائفهم. وأصبحت هذه الطوائف دويلات مستقلة ذاتيا، تحكمها عصابات أو مليشيات مسلحة، وتضع مصالحها فوق المصلحة الوطنية”. ..عام الانقلاب الكبير يشير معلوف إلى دول عربية أخرى شهدت في الأربعينيات وحتى الستينيات من القرن العشرين حراكا سياسيا واجتماعيا، بدا مبشرا بنهضة ووعي يتجاوز خطاب الهويات والطوائف، كما في العراق والسودان واليمن وسوريا، ويعد بإعلاء القيم الكونية، لكن للأسف انتهى ذلك كله إلى إحباط وفشل وأنظمة حكم استبدادية. يقول معلوف أنه يريد أن يرد على من يحملون مشاعر ريبة أو عداء تجاه العالم العربي والإسلامي بالتأكيد أن هذا العالم قد عرف “حالة سوية”، وأن شعوبه كغيرها من شعوب العالم راودتها الأحلام الكبيرة، “فالاعتقاد يسود بأنه (العالم العربي) يحمل اختلافات يصعب التغلب عليها، ومنذ الأزل، لا بل أصبح يعد، عن وعي أم لا، بمنزلة عالم على حدة، يسكنه بشر من نوع آخر”، أما معلوف فيرى أن ما تعيشه هذه الأمة حاليا من يأس وتراجع لم يكن يوما أمرا محتوما. هنا يتوقف معلوف أيضا عند هزيمة 1967 ويعتبرها مفصلية في عملية انزلاق العالم العربي إلى البؤس الذي لم يتخطاه حتى اليوم. يقول إنها كانت “منعطفا حاسما على طريق الشقاء والضياع، ولكنها لا تبرر ما جرى. كان بالإمكان أن تتحسن الأمور، وأن يسلك منعطفا آخر بعد بضع سنوات لصعود المنحدر من جديد. ولئن استمر الانحراف بل واشتد، فذلك بسبب ظاهرة تاريخية أخرى، أوسع نطاقا، وأكثر امتدادا من الناحية الزمنية، وليست، بالمعنى الحقيقي للكلمة حدثا من بين أحداث أخرى”. إنه الانقلاب الكبير، كما أسماه، الذي وقع في العام 1979، وهو مجموعة من الأحداث التي ستغير وجه العالم وتطلق مفاهيم جديدة ومقاييس مختلفة. في هذا العام أتت مارغريت تاتشر إلى الحكم في بريطانيا معلنة عن ثورة محافظة عمادها تخفيف التدخل الحكومي في الحياة الاقتصادية وتقليص المساعدات الاجتماعية.. وهو نهج انتقل بسرعة إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية وحتى إلى دول قريبة من النهج اليساري، حيث سيصبح تدابير من قبيل “زيادة إطلاق يد أصحاب المشاريع، والتخفيف من تأثير النقابات، بمنزلة معايير يقاس بها حسن إدارة الشؤون العامة”. وفي العام نفسه أيضا حدثت الثورة الإيرانية التي أتت بالخميني، وهي ثورة تركت تأثيرها على مجمل العالم الإسلامي، إذ بدا أن الإسلام السياسي أصبح قادرا على تصدر المشهد والقيادة. لقد “رفعت مختلف القوى المحافظة راية الثورة، في حين اضطر دعاة التقدمية إلى اتخاذ موقف دفاعي”. أحدثت هذه الثورات المحافظة تغييرات في الإدارة الاقتصادية وفي العلاقات بين المواطنين والسلطات العامة، والأهم من ذلك أنها فاقمت وعممت التوترات المرتبطة بالهوية، بحسب معلوف. “فلطالما كان خطاب الذين يدافعون تقليديا عن أفكار التيار المحافظ، يتسم بنبرة مرتبطة بالهوية، غالبا ما تقوم على الدين أو الأمة أو الأرض أو الحضارة أو العرق أو على مزيج من كل ذلك. وسنصادفها لدى الجمهوريين الأمريكيين، ولدى القوميين الإسرائيليين في حزب الليكود، ولدى القوميين الهنود من حزب الشعب الهندي، ولدى حركة طالبان في أفغانستان، ولدى الملالي في إيران، وبصفة أشمل لدى جميع القوى السياسية التي قامت، ابتداء من السبعينيات من القرن الماضي، بثورتها المحافظة”. أنها “هويات قاتلة” ساهمت في تفكيك المجتمعات وزيادة غربتها الداخلية، ليس في المنطقة العربية فقط بل في كل أنحاء العالم. ..غياب البوصلة السياسية والأخلاقية ثمة عاملان فاعلان في التوجهات السائدة حاليا، يفسران الحالة المزرية التي وصل إليها “التضامن البشري”. الأول فكرة صاغها آدم سميث في القرن الثامن عشر، “مؤداها أن كل شخص يجب أن يتصرف حسب مصالحه الشخصية، فمجموع كل تلك الأنانيات سيكون بالضرورة لمصلحة المجتمع بأسره، وكأن “يدا خفية” تتدخل بعناية إلهية لتنسيق مجمل أعمالنا وهي عملية دقيقة ومعقدة تعجز السلطات العامة عن أدائها، ومن الأفضل ألا تتدخل فيها لأن تدخلها سيزيد الأمور تعقيدا عوضا عن تيسيرها” يقول معلوف أن هذه الفكرة عادت منذ السبعينيات لتؤثر بشدة في مواقف أبناء عصرنا، وتجد لها مكانا في السياسات الاقتصادية المحافظة. لكن أثرها يتجاوز ذلك “فإذا لم نشأ أن تتدخل السلطة العامة في الحياة الاقتصادية للأمة، فلن نرغب من باب أولى في أن تصدر هيئة فوق وطنية توجيهات.. ومن البديهي أن نرتاب من كل ما يشبه حكومة عالمية مثل الأممالمتحدة..” وعلى المنوال نفسه سنرتاب من كل تحذيرات أممية أو خارجية من كوارث طبيعية كالاحتباس الحراري.. إلخ. العامل الثاني أو لنقل السمة الثانية لهذا العصر، هي “إضفاء المشروعية على الفروق الاجتماعية مهما بلغت حدتها.. أصبح ينظر إلى الإثراء الفاحش بانبهار.. وليس بتقزز، وإذا كانت مداخيل بعض مديري الشركات تثير الاستهجان، فمداخيل لاعبي كرة القدم أو الممثلين أو نجوم الغناء لم تعد تثير الاستهجان على الإطلاق. ويزداد هذا الموقف حدة أيضا في بلدان مثل روسيا أو الصين، حيث ظلت نزعة سطحية للمساواة لفترة طويلة تصلح تمويها للظلم والاستبداد”.ويتابع معلوف: “إذا كانت الفروق مثيرة للقلق في أيامنا الراهنة، فليس لأنها قد تتسبب بانتفاضات شعبية في جميع أنحاء الأرض، بل لأن اختفاء البوصلة الأخلاقية التي يمثلها مبدأ المساواة يسهم في كل بلداننا كما بالنسبة إلى البشرية جمعاء في تفكك النسيج الاجتماعي”. إلى ذلك يشعر معلوف أن خللا كبيرا يعيشه البشر اليوم بسبب غياب أي سلطة لها مصداقية معنوية وسياسية، وهي سلطة كان يتوقع من الولاياتالمتحدةالأمريكية أن تمارسها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وبعد تفكك الاتحاد السوفييتي ولأنها الدولة العظمى الوحيدة المتبقية، سلطة كان يمكن أن يمارسها أيضا الاتحاد الأوروبي، لكنه لم يتمكن من القيام بهذا الدور، بل إن قوته في تراجع عما كانت عليه لاسيما مع انسحاب بريطانيا من عضويته، ومع تصاعد التيارات القومية التي تشكك بكل المشروع الأوروبي من هولندا إلى إيطاليا. هذا الفشل، وكل ما سبق ذكره عن الفرص الضائعة والخيبات المتلاحقة، يرى معلوف أنه أدى إلى تفكك المجتمعات البشرية المعاصرة، وهو لا يرى في ما يحدث حاليا تعبيرا عن فكرة صراع أو صدام الحضارات، بقدر ما هو انحلال وانهيار لكل هذه الحضارات القوية منها والضعيفة، إن ما يحدث هو كما يقول عنوان كتابه غرق للحضارات.