الغالبية العظمى من الملوك والحكام العرب لا يثقون في أنفسهم، ويضعون ثقتهم كاملة في الحركة الصهيونية ومنشئيها الأوروبيين والغربيين والأمريكان الذين فرضوا وجود الدولة الصهيونية، وكل هؤلاء يتوجهون في حل مشاكلهم إلى الدول والكيانات المنحازة بشكل أعمى للمشروع الصهيوني، وجعلوا من أنفسهم مدافعين عنه، ومقاتلين من أجل بقائه وتحصين بنيانه العنصري، والاستعانة بدولته على خصومهم؛ من الأشقاء والأصدقاء والمناصرين، ويحق على الرافضين للمشروع الصهيوني أن يبتعدوا عن كل هؤلاء؛ بألوانهم السياسية والطائفية والمذهبية والانعزالية والعشائرية، فهم متكاتفون ومستعدون دائما للمشاركة والمساعدة في تدمير أي دولة أو كيان عربي أو إسلامي أو إنساني «غير مصهين». وما يجري في ليبيا مخطط لا علاقة له بما يجرى على ساحات وطنية وإقليمية وقارية وعالمية؛ مناصرة ومؤيدة للحقوق الفلسطينية والعربية، وذلك المخطط حقق نجاحاته باضطراد على الصُّعِد كافة. وتعكسها تصريحات متعددة ومتناقضة لأطراف عديدة معنية بضبط الشأن الليبي على مقاييس ذلك المخطط، ومعالجته على القواعد المعتادة، ومتابعة السير على «خرائط طرق»؛ مخططة ومرسومة أمريكيا، وأهم ما فيها الالتزام بالمعالجات الصهيونية الخالصة، وتأكيد مصالحها التوسعية والاستيطانية، ولنرجع إلى كل ما هو مطروح على فلسطينوالعراقوسوريا ولبنان ومصر؛ نجده معاكسا ونقيضا لما كان معروضا في السابق، وإلى ما قبل زيارة السادات للقدس المحتلة. ولم يبق أمام العرب إلا استمرار اللجوء إلى واشنطن وتل أبيب ولندن وبرلين، ومؤخرا موسكو، إذا ما اختلف زوج مع زوجته، وأب وابنه، أو إذا خاصم أخ أخاه، أو احتك جار بجاره؛ ما عليهم إلا طلب النجدة من أولئك المتنمرين، ولعلنا نذكر للعرب مع كل ما كان فيهم من سلبيات وعيوب، وتناقضهم الحاد، الذي كان قائما وما زال بين كثير من نظم الحكم العربية وبين مواطنيها؛ كان هناك من لا يقبل بذلك، واعتمدوا كثيرا على أنفسهم، وبحثوا عن مخارج وحلول ذاتية؛ تراعي الظروف والإمكانيات المتاحة. حدث ذلك في مواجهة نكسة 1967، وجاء مؤتمر القمة في الخرطوم شاهدا؛ بلاءاته الأربع.. لا تفاوض.. لا صلح.. لا اعتراف.. لا تفريط في الحق الفلسطيني، فشد من أزر المقاتلين والجنود والمقاومين على جبهات القتال، وخَلْف خطوط النار، وعلى مستوى الجبهات الداخلية؛ في مصر وسورياوفلسطينوالأردن.. وأقدموا على المساهمة والاستعداد للمعركة؛ بقوات وأسلحة، ودعم مالي وعيني، وقدموا ما استطاعوا من أجل «إزالة آثار عدوان 1967»؛ ومعالجة خلل ميزان القوى، والتهيئة لمعركة التحرير الفاصلة!!. ووقت أن كانت المشروعات والحلول عربية كانت المصالحات ممكنة، وكان النصر أيضا ممكنا، وحين تغيرت المواقف بدأ القبول والرضا بالتبعية طوعا واستسلاما، ولا نذهب بعيدا؛ ليتذكر العرب ما حدث من السادات عندما خرج عن الإجماع العربي، وزار القدسالمحتلة، وألقى خطابه من فوق منصة البرلمان الصهيوني «الكنيست»، واندفاعه نحو «الحل المنفرد»، فيما يخص القضية الفلسطينية، وفي التعامل مع باقي الأراضي العربية المحتلة؛ وجد ذلك ترجمته في توقيع اتفاقية «كامب ديفيد». وبادر الملوك والرؤساء والأمراء والشيوخ العرب، وعقدوا «قمة بغداد»، التي رفضت الموافقة على اتفاقية «كامب ديفيد»، ودعت لتوحيد الجهود، ومعالجة الخلل الاستراتيجي الذي نجم عن سحب مصر لرصيدها في المعركة، وتعويض ذلك بتنسيق جهود الدول المستعدة والقادرة على المشاركة مع أطراف المجابهة وتوحيدها، وإعداد الخطط اللازمة لذلك. ودعت تلك الدول مصر للعودة نهائياً، وعدم التوقيع على أية معاهدة للصلح مع الدولة الصهيونىة، وسعت لعودتها «إلى حظيرة العمل العربي المشترك، وعدم التصرف بصورة منفردة بشؤون الصراع العربي- الصهيوني»، وبادروا بدعم الجبهة الشمالية ومنظمة التحرير الفلسطينية. ووضعوا في حسابهم استجابة حكومة جمهورية مصر العربية لدعوة المؤتمر، وتركوا المجال مفتوحاً أمامها لتأخذ مكانها الطبيعي في الصف العربي الواحد، «وعودة باقي أشقائها لدعمها وحمل أعبائها ضمن الإطار الذي قرره هذا المؤتمر لدعم دول المجابهة». وتقديم مساعدة سنوية لمدة عشر سنوات للجبهتين الشمالية والشرقية ولمنظمة التحرير الفلسطينية. وحدد المؤتمر 7 دول عربية قادرة على تقديم المساعدة المالية، وهي: ليبيا والعراق والسعودية والكويت والإماراتوالجزائروقطر، وقُدِّر المبلغ المقترح ب 3500 مليون دولار، وكانت المساهمة الأكبر من ليبيا ب 550 مليون دولار، والأصغر من دولة قطر ب230 مليون دولار، وإن كان ما تقرر من الجزائر في حدود 250 مليون دولار، لكنها لعبت دورا كبيرا في تعويض السلاح، ومشاركة جنودها في القتال مع بدء المعارك، ونفس الشيء فعلته ليبيا، وأسهمت الدول العربية غير الوارد ذكرها حسب إمكانياتها وقدراتها «انطلاقا من قومية العمل وشرف المسؤولية الجماعية»؛ على أن تُوَزع المبالغ على؛سوريا بواقع 1850 مليون دولار. والأردن 1250 مليون دولار، ومنظمة التحرير الفلسطينية 250 مليون دولار. ولا ينسى التاريخ الجهد الجبار الذي بُذِل في أيلول/سبتمبر، أو أيلول الأسود، وتلبية القادة العرب لحضور مؤتمر قمة استثنائي في 23 سبتمبر 1970 بالقاهرة؛ لحقن الدم المراق بين قوات الجيش الأردني وقوات المقاومة الفلسطينية، ونجح عبد الناصر في جمع طرفي الأزمة؛ الحسين بن طلال وياسر عرفات.. وقد قبلا ما قرره المؤتمر: 1) الإنهاء الفوري لجميع العمليات العسكرية من جانب القوات المسلحة الأردنية وقوات المقاومة الفلسطينية. 2) السحب السريع لكلا القوتين من عمان، وإرجاعها إلى قواعدها الطبيعية والمناسبة . 3) إطلاق المعتقلين من كلا الجانبين. 4) تكوين لجنة عليا لمتابعة الاتفاق الذي أقره المؤتمر. وانتهى المؤتمر بعد مصالحة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية وملك الأردن، ووجدها عبد الناصر فرصة، وطلب من الملك حسين الإفراج عن منفذي «عملية إيلات» الذين اعتقلتهم السلطات الأردنية، وكانت إيلات قرية مصرية باسم «أم الرشراش»! وبقيت هذه التقاليد سارية حتى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية 1975 – 1990)، وتشكلت قوات الردع العربية لحفظ السلام؛ بمبادرة من جامعة الدول العربية لعقد قمة عربية عام 1976 في الرياض، والتي اقتصرت على حضور ستة ملوك وأمراء و رؤساء دول. وتشكلت قوات الردع من: سوريا، والسعودية، والإمارات، والسودان، واليمن، وكانت القوة الأكبر سوريا، وشاركت بقية الدول ب700 جندي لكل منها، وحدثت الخلخلة بانسحاب القوات السعودية، وتبعتها قوات الإمارات، والسودان، واليمن، وبقيت القوات السورية، التي وُصِفَت ب«قوات احتلال»، وكانت المشاركات العربية سلوكا طبيعيا ومعتادا وإن احتاجت لتطوير وإنضاج، وساعد استمرار ذلك على تجنب مآس عديدة، وحقن دماء كثيرة، وحد من إراقة المزيد منها، وخفف من وطأة الصراعات والخلافات. كان هذا بالأمس القريب؛ رغم كل ما نشر وقيل من ملاحظات ونقد، إلا أنه حقق الحد الممكن من التماسك والتضامن. أما اليوم فقد اختلف الأمر والسبب هو مستوى النجاح لمخطط الاقتتال البيني؛ العربي العربي، واستنزاف «القارة العربية»، وما زال السبب يعود تاريخيا لسحب مصر رصيدها وثقلها من معادلة القوة العربية، والتزام السادات بمبدأين فاسدين: الأول؛ ادعاء امتلاك أمريكا ل«99٪ من الأوراق السياسية»، والثاني تهميش دور القوى الأصيلة وصاحبة القول الفصل في تحريك وحل القضايا العربية المصيرية والعادلة والعالقة، وإلحاق السياسات الرسمية العربية كرديف وذيل للقوى «الصهيو غربية»، وقد طبعت الحلول بطابعها المكرس للسير في الركب الصهيوني الاستيطاني، وهذا أغرق الكل في ظلام دامس، ونأمل أن تنجو ليبيا من مصير العراقوسوريا، وقد أضحت العداوات عربية عربية، وعربية إسلامية، وضد دول الجوار، وكلها مؤشرات دخول مرحلة «التحلل»، وعلينا جميعا تدارك الأمر قبل فوات الأوان. وما زال ملف ليبيا مفتوحا مع تزايد الأصوات المنادية باستدعاء قوات أممية؛ لتفصل بين المتقاتلين.. وهنا يكمن الخطر.. فالقضية ليبية وحلها في أيدي الليبيين، ومن يتوسمون فيهم الخير من الأشقاء العرب. القدس العربي