الأحداث الكبرى التي تغيّر العالم غالباً ما تأتي من أشياء صغيرة لا نتحسب لها؛ فمثلاً أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2011 كانت أدواتها مشرطاً وتذكرة طائرة، لا قنابل نووية أو غيرها. تغيّر العالم بعدها وأصبح ما بعد 11 سبتمبر غير ما سبقه. واليوم ما يغيّر العالم أيضاً مجرد فيروس لا يُرى بالعين المجردة، لينتشر ويصبح وباءً عالمياً. العالم بعد ظاهرة الوباء (كوفيد – 19) هو عالم آخر غير الذي سبقه، وهو عالم يطرح أسئلة كثيرة عن معنى الحدود ودور الدولة، وعن العولمة مقابل الكوارنتين والانغلاق، وسأحاول هنا أن أرسم بعض ملامح هذا العالم في شقيه الدولي والمحلي، بتركيز على الجانب الدولي، وتبعات ذلك على منطقتنا العربية وملامحها في المستقبل. فكرة الأمن والحدود في صورتها المتطرفة أطرحها من خلال مثال شخص عنده «كورونا» عطس في غزة أو رام الله، فهل تحمي القبة الحديدية أو حتى الدعم الأميركي إسرائيل من الوباء؟ «كورونا» قد يجعل دولة كإسرائيل تفكر مرة ثانية أو تعيد النظر في فكرة الحدود وحل الدولتين وعلاقتها بالشعب الفلسطيني. الفلسطينيون أيضاً سيعيدون التفكير، فأي المشافي أقرب إليهم وأكثر جدية في علاج الأوبئة، هل هي في مصر والأردن أم في إسرائيل؟ هذا مثال متطرف لإعادة النظر في فكرة الحدود والأمن، ولكنه يجعل نقطتي واضحة جلية. مثال آخر يخص العالم منذ عهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان، في ثمانينات القرن الماضي، والذي انخرط في فانتازيا حرب النجوم لإسقاط الاتحاد السوفياتي، وأدخل العالم كله في النظر إلى الفضاء كميدان لمعارك البشرية الجديدة، وأنفقت أميركا والدول الكبرى المليارات لسباقات في الفضاء، وجاء «كورونا» ليوضح أن الحرب الحقيقية هنا على هذه الأرض، وبدلاً من التحديق إلى السماء علينا أن نحدّق تحت أقدامنا لنرى الوباء الذي يكاد يفتك بالبشرية جمعاء. وهنا أيضاً تأتى مراجعة وإعادة تقييم، فلو أنفقت تلك الدول ما أنفقته من مليارات حرب النجوم على مكافحة الأوبئة على الأرض لكان حال العالم مختلفاً اليوم. من هذين المثالين يتضح أن العالم القديم (الذي نحن فيه الآن) سيتعرض بمؤسساته وطريقة عمله إلى إعادة نظر وتقييم جديدين. فالمؤسسات التي أثبتت قدراتها في زمن الوباء ستستمر. وهناك مؤسسات أخرى كانت مجرد شحوم ودهون زائدة على الجسد الدولي لا بد من التخلص منها، حيث كانت أعباء لا عوامل مساعدة. المعيار هنا سيكون مرتكزاً على القدرة على الأداء داخل منظومة متكاملة وتنسيق بين المؤسسات داخل الدولة الواحدة وخارجها. كذلك أولويات العالم تتغير. داخل الدولة الواحدة أيضاً ستحدث إعادة تقييم لمدى التنسيق بين المؤسسات وقدرتها على العمل بكفاءة. لست متأكداً أن مؤسسات ما بعد اتفاقية «بريتون وودز – Britton woods» (التي انعقدت في ولاية نيوهامبشير في الولاياتالمتحدة عام 1944 للإعمار ودعم النظام المالي العالمي، مثل صندوق النقد الدولي وكذلك البنك الدولي العالمي) ستستمر كما هي وبنفس آليات العمل. فمثلاً لا أستطيع أن أتصور أن البنك أو الصندوق سيمنح الدول قروضاً دونما متابعة نظافة هذه الدول لأن أمراضها لن تصيب أهلها فقط بل ستصيب العالم كله في معنى الحدود الجيوسياسية للدولة. كذلك لا بد من إيجاد طرق لإرغام الديكتاتوريات على الشفافية في أرقام الحالات المصابة ليس لعلاجها فقط ولكن لتحديد مدى انتشار الوباء وآثاره العالمية. الشفافية والنظافة المحلية مجرد أمثلة لنوعية التدخل القادمة من مؤسسات عالمية. في المقال السابق أكدت أهمية الدولة أنها الفاعل الرئيسي في أزمة «كورونا»، وأن دور المجتمع المدني العالمي والمحلي كان محدوداً رغم نظريات كثيرة ظهرت للتقليل من دور الدولة. لكنني هنا أيضاً أقول: إن هذه الدولة الفاعلة ستخضع لمراقبة عالمية أكبر ولن تكون محاسبتها فقط من الشعب ومؤسساته داخل إقليم الدولة وإنما ستكون محاسبتها عالمية. شكل مؤسسات الدول من الداخل سيختلف، فهناك دول كثيرة كشف «كورونا» قدراتها وتحتاج إلى إعادة هيكلة مؤسساتها. العولمة كمفهوم أيضاً وكذلك الأنظمة المالية المصاحبة لها سيعاد النقاش حولها، فهل نحن بالفعل قرية صغيرة في مواجهة الوباء أم أننا مجموعة دول كل واحدة ستغلق حدودها وتتكفل بمواطنيها؟ وكيف يستقيم أن يكون الانكماش والانغلاق هو الحل في مواجهة وباء عابر لتلك الحدود المدّعاة؟ أسئلة كثيرة سيطرحها العالم الجديد ستكون لها تبعات على جميع الدول دونما استثناءات. العالم ما بعد «كورونا» سيكون بلا شك غير العالم قبله. الشرق الاوسط