فعلت جائحة «كورونا» الكثير في حياتنا، فما إن دخل الفيروس الأشهر إلى بيوتنا ويومياتنا، حتى اشتعلت مفاوضات بدأت بالأسر حول كيفية التعاطي مع الوضع الجديد الذي نشأ، واتسعت وارتفعت حتى غطت الكون كله بين مفاوضات داخلية وأخرى دولية، ومفاوضات راهنة ومستقبلية. أوروبا صاحبة الاتحاد المتعثر أحياناً والمستقر غالباً، أدارت فيما بينها مفاوضات أطرافها طبقاتها الثلاثة: العليا الغنية والوسطى البخيلة والسفلى الفقيرة، ساعة كتابة هذه المقالة اقترب المتفاوضون من بلوغ تسوية… وفي أوروبا ليسوا مثلنا يكثرون التفاوض ولا يتوصلون إلى نتائج. وعندنا، حيث بدل الجائحة الواحدة عشرات الجائحات؛ صحية وسياسية وحربية، فالجائحات الصحية نحن إزاءها مثلنا مثل سائر خلق الله نحاول… ننجح هنا… ونفشل هناك، نتقدم اليوم ونتراجع غداً… نشكو من قلة الإمكانات ونشكر من يتبرع ولو بكمامات. وبمقياس واقعي فهنالك كثيرون أفضل منا وكذلك كثيرون أسوأ. أما الجائحات السياسية التي اجتاحت معظم مناطقنا وهزّت أركان الكثير من أساسات دولنا، فبعضها تجري اتصالات أولية بشأنها بعيدة عن الأضواء تحت عنوان «تغليب الحلول السياسية على العسكرية»، وبعضها الآخر يجري تأجيله وأيضاً تحت عنوان «إلى حين نضوج الأوضاع وظهور جاهزية جدية لدى الأطراف للمفاوضات». أُم القضايا التي تزامنت معها الجائحتان هي القضية الفلسطينية، فقد عاد الحديث مجدداً بعد غياب شبه كامل حول المفاوضات والتسويات ورغم عدم اليقين بواقعية الحديث الذي أثاره ربما ما نُقل عن محادثات الرئيس عباس مع الوزير سامح شكري، بأن الأول أبلغ ضيفه استعداده لاستئناف المفاوضات، ما هيأ للمتفائلين أن قولاً كهذا لا يقال لمجرد الدعاية، ذلك أن سامح شكري ليس وزير خارجية بريطانيا. لو أن العالم منطقي بما يكفي، فإن معطيات ذات وزن نشأت في زمن الجائحتين «كورونا» وصفقة القرن، أهمها الفشل الذريع الذي منيت به الصفقة ومولودها المشوّه الضم، وهو فشل كامل، وحتى لو أقدم نتنياهو على أي قدر من الضم أو أي نوع، قليلاً أم كثيراً متدرجاً أم دفعة واحدة، فإن ذلك لن ينفع بعد أن حوصرت الصفقة برفض دولي يكاد يكون مطلقاً، ورفض فلسطيني جماعي لا اختراق ولو فردياً فيه، ورفض عربي شامل بدّد الشكوك التي حاول نتنياهو نشرها حول المواقف العربية من الضم، بعد ذلك سوف تسجَّل الخطوات الإسرائيلية تحت حساب الإجراءات الاحتلالية أحادية الجانب، ما يفسح في المجال لتجاوز حكاية الضم كإجراء منفرد عارٍ عن الشرعية، ليتركز الاهتمام على الأمر الأهم الذي هو الاحتلال وحتمية إنهائه والعودة مجدداً إلى الإجماع الدولي القديم حول حل الدولتين، وإذا كان هذا الحل قد بدا بعيد المنال بفعل مبادرة ترمب المستحيلة وطريقة نتنياهو في فهمها والتعامل معها، إلا أن البعيد يظل واقعياً أكثر من المستحيل. لا أحد مهما كان وضعه في معادلة القوى المؤثرة في منطقتنا يعرف ما الذي سيحدث بعد الجائحات، الصحية والسياسية، وذلك بفعل غموض المسارات التي تُفضي إلى تسويات، فالمسارات الراهنة غير مقروءة المآلات بصورة نهائية، ومع ذلك سيجري حديث كثير حول ما بعد الجائحات وفق النظرية البسيطة التي سادت «ما قبلها ليس كما بعدها»، وهذا لا يجيب عن الأسئلة. إذاً فلننتظر ونراقب لنرى. الشرق الأوسط