يبدو أن الوضع العربي المهترئ استقر على حسم الموقف من مشاكل «القارة العربية» على أساس خيارين؛ الأول رسمي تابع للولايات المتحدة، ومنتم للصهيونية العالمية، ولذلك الخيار أنصار من الغرب والشرق والجنوب والشمال، ومن العرب والمسلمين، الذين ربطوا مصالحهم، والتقت تطلعاتهم معها، وموزعين في أنحاء المعمورة، ويؤدون أدورا رُسمت لهم، ويعيشون منعزلين، وينفرون من الجماعية والعمل الجماعي. والخيار الثاني خيار أهلي وشعبي (وليس شعبويا الذي ظهر مع غيره من تعبيرات الثورة المضادة المُحَقِّرة للشعوب وكفاحها)، وأساس هذا الخيار الاندماج في المجتمع والانصهار فيه، ويختار المواطن مكانه اللائق المرتبط بغيره من المواطنين، ويشعر بمشاعرهم وبالأمن بينهم، ولا تتناقض طموحاته ومصالحه مع المصالح العامة والوطنية، وهو مبدئي؛ ينحاز للحق والعدل، وينشد الحرية والمساواة؛ بعيدا عن أي هيمنة غير قانونية. وإمكانيات القوى القابلة بالخيار الرسمي، وقدراتها الاقتصادية والمالية والإعلامية أكبر من حجمها الحقيقي، وتعيش في أرقى القصور، وأضخم القلاع، ولها هيمنة وسطوة على دواوين الحكم، وبين القابضين على مقاليد السلطة، والمحتكرين للثروة، والمبدعين في فنون الإسراف والتبديد والجباية ونهب الثروات والأموال والممتلكات العامة. وينطبق على هؤلاء وصف «القابلية بالتبعية»؛ على غرار ما استخلصه المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي عن «القابلية للاستعمار»؛ كاشفا الدور الخفي للمستعمر في ثوبه الجديد، ونشره لقيم وأفكار وثقافات فاسدة تخدم أهدافه، وتغرس روح القبول بالرضوخ والتواكل والجبن، والدونية، وكلها سمات غالبة على سلوك وتصرفات أولئك «القابلين بالتبعية» ويتعاملون فيما بينهم بمنطق القطيع؛ المتطلع دوما إلى راع؛ ينتظر إشارته ويتجنب غضبه ويتفادى عقابه، ويسير في الركاب الذي أختِير له، ويسلم بالخيار الرسمي وشبه الرسمي والنخبوي، ويتحرك ضمن مساحة محددة سلفا، إنه أشبه بالإنسان الآلي (الروبوت).. وهذا المشهد الذي نعيشه؛ من هرولة وسباق نحو التطبيع والصهينة، ممن ليس لهم ناقة ولا جمل في الصراع العربي الصهيوني، وقد كانوا بعيدين عنه تماما، فلم يكن لهم وجود سياسي كدول قبل عام 1971، وقبل انتهاء الحماية البريطانية، ومن الثابت تاريخيا أن الدخول البريطاني لمنطقة الخليج تم عبر «شركة الهند الشرقية» وصدر لها مرسوم ملكي عام 1600 احتكرت بمقتضاه التجارة الإنكليزية في تلك المساحات الشاسعة، ولعبت تلك الشركة دورا خطيرا في صياغة تاريخ الخليج العربي، واستمر ذلك حتى زلزلة تأميم قناة السويس، وتوابعها والعدوان الثلاثي، الذي استهدف إعادة احتلال مصر، وانتهى بهزيمة امبراطوريتين كبريين؛ بريطانية وفرنسية في مصر والجزائر وشمال أفريقيا، وانسحاب بريطانيا من عدن وشرق السويس، وترك محمياتها الخليجية عام 1971.. وتغري الانهيارات الراهنة القوى الصهيو أمريكية، المتمكنة من مقادير «القارة العربية»؛ ومنها منطقة الخليج، وتستحوذ عليها بتنفيذ مخطط التطبيع والصهينة، الذي يتولاه ترامب لصالح نتنياهو، وإن كان المخطط قد بدأ من نحو نصف قرن؛ فور وضع حرب 1973 أوزارها، وبداية اتصال هنري كيسنجر وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق بأنور السادات، واتصال كيسنجر بدوره بغولدا مائير رئيسة الوزارة الصهيونية آنذاك، وطمأنها ونقل إليها خطة السادات وحدود المعارك على الجبهة المصرية، وهدفه التحريك لا التحرير، وعينه مركزة على التفاوض، وبدأ بالفعل بمفاوضات الكيلو 101 (نهاية اكتوبر 1973) على الخط الفاصل بين القوات المصرية والقوات الصهيونية بطريق القاهرةالسويس، وهو تفاوض مستمر مع كل دولة عربية على حده، وينتهي دوما باتفاقيات تؤكد الهزيمة السياسية وخسارة مزيد من الأراضي، حتى انحسرت فلسطين إلى أقل من 20٪ من مساحتها التاريخية.. وهل ما جرى من اتفاق من قِبَل الإمارات والبحرين، وقبلهما مصر والأردن؛ هل هو علامة صحة أم عَرَض لمرض خبيث سَرَى في مؤسسات القرار فيها؟ فمن زمن ترسخ في الذهن الرسمي العربي وهم اسمه ضمان استمرار واستقرار أولئك على كراسيهم، وتحول الوهم لتقليد، جعل كل منهم يحج ويولي وجهه شطر واشنطن وتل أبيب طلبا للعفو والمغفرة، وإعلان السمع والطاعة، وتمثل المرحلة المستجدة من التطبيع والصهينة فرصة ذهبية لترامب ليلقي بكل أوراقه ورهاناته؛ ليكسب ويحظى بدعم الحركة الصهيونية، ومباركتها، ويضمن الاستمرار لأربع سنوات أخرى في البيت الأبيض. وهي سُنَّة سبقه إليها الضعفاء والمتهافتون والمطبعون والمصهينون؛ عرب ومسلمون! ونقدم هنا شهادات ووجهات نظر لعناصر غربية؛ ليست عربية أو مسلمة، ونبدأ بما تضمنته دراسة لمعهد واشنطن مطلع هذا الشهر (سبتمبر 2020) لدينيس سيترينوفيتش؛ خبير قضى أكثر من ربع قرن في أعمال المخابرات وجمع المعلومات (الإسرائيلية)؛ وجاء فيها: «أنّ البلديْن (الإمارات والدولة الصهيونية) يختلفان على صعيد ثقتهما في القدرة على تحمّل المواجهة العسكرية مع إيران. فعلى عكس (إسرائيل)، تفتقر الإمارات إلى القوة العسكرية والقدرات الدفاعية الفعّالة، وبقيت الإمارات غير واثقة من الدعم أو الدفاع الأمريكي في حال المواجهة مع إيران. وبرزت هذه المعضلة بشكلٍ خاص بعد الكشف عن الاعتداء على شركة أرامكو، وبقاء (إسرائيل) على ثقة كاملة من الدعم العسكري الأمريكي». ووردت شهادة الأوبزرفر البريطانية (16/ 08 / 2020) في تقرير لإيان بلاك عنوانه «الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي يحد من إمكانية حل الدولتين».. وقال إن «التطبيع» لا يزال كلمة مشينة في اللغة العربية. «لكن هذا لم يمنع الإمارات، ثاني أكثر دول الخليج ثراءً وقوةً من إبرام اتفاق سلام مع بنيامين نتنياهو، بوساطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب» ويرى إيان بلاك: إن الاتفاق مع الإمارات ذو طبيعة مختلفة، فالإمارات لم تشارك أبدًا في أي أعمال عدائية، ولم تكن قط طرفا في النزاع، ولذا فإن الاتفاق يبعث برسالة سياسية قوية لكسر المحرمات». ووفقًا للأطراف الثلاثة، حسب الكاتب، «تم التوصل لهذا الاتفاق من أجل منع إسرائيل من المضي قدمًا في الضم أحادي الجانب لأجزاء من الضفة الغربيةالمحتلة، وهذا يعني بشكل حاسم أن الوضع الراهن للاحتلال الإسرائيلي القائم منذ 53 عامًا سيبقى دون تغيير» ويضيف: «كانت العلاقات بين البلدين معلنة بشكل متزايد في العقد الماضي، بسبب العداء المشترك لإيران. وشهد التعاون المخابراتي بينهما تطورا كبيرا للغاية، ويواصل: «إن الوزراء ورجال الأعمال (الإسرائيليين) يزورون الإمارات بانتظام، وعلى الرغم من كل هذا التعاون والتعامل الوثيق بين البلدين، فإنه لا يزال مدهشا أن تذهب الإمارات إلى حد إقامة علاقات دبلوماسية رسمية مع (إسرائيل)» ويختتم بلاك: «لا يزال السؤال عن كيفية تحقيق دولة فلسطينية إلى جانب (إسرائيل) بخلطة سامة من ترامب ونتنياهو والانقسامات الفلسطينية والعربية الأوسع؛ لا يزال ذلك السؤال يبعث على القلق»!!. أما شهادة صحيفة «الإندبندنت» فجاءت في ثنايا تقرير بيل ترو، مراسلة شؤون الشرق الأوسط، عن «عدم وجود ضمانات بشأن وقف إسرائيل ضم مناطق في الضفة الغربية» وكشفت سرا ب«إن مسؤولين إماراتيين أطْلَعوا الصحيفة على أن الإمارات ليس لديها ضمانات مؤكدة بأن إسرائيل لن تضم الأراضي الفلسطينيةالمحتلة في المستقبل» وهذا أكده عمر غباش، مساعد وزير الخارجية الإماراتي بقوله: «لا توجد أمور ثابتة أو منقوشة على حجر إذا ما تخلت (إسرائيل) عن وعودها». شهادات غير مجروحة تؤكد أن انتماء من ارتكبوا ذلك الفعل السياسي الفاضح سواء حمل اسم التطبيع أو الصهينة، واعتباره قرارا سياديا، والسؤال أي سيادة تلك مع كيان كان وما زال «كيانا وظيفيا» يخدم المشروع الصهيوني العنصري، كما جاء في موسوعة المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري عن اليهودية والصهيونية، وقد تغير الوضع وتحولت أمريكا ل«كيان وظيفي» يسهر على خدمة الدولة المغتصِبة، والحركة الصهيونية التي أقامتها، وبذلك عادت الولاياتالمتحدة لسيرتها الاستيطانية الأولى!! وما هو الواجب الأداء من الأحرار؛ عربا ومسلمين، وكذلك أحرار شعوب العالم الأول والثاني والثالث؛ واجبهم هو فتح الأبواب والطرق أمام مبادرات الالتفاف حول فلسطين، ولتبدأ برفع شعار «كلنا فلسطين» ودعوة الجميع إلى إعلان انتمائهم الجماعي لها؛ كفكرة، وتاريخ، وقضية، وأرض، وشعب، ودولة، وعودة، وتعويضات، وتشكيل لجان وورش عمل تعكف على مشروع يستجيب لمتطلبات هذه المرحلة ومستجداتها، وليكن نقيضا للمشروع الصهيوني الزائف، من الفرات إلى النيل، الذي تغير في هذا العصر الصهيو أمريكي الدموي، وتوسع وأصبح من المحيط إلى الخليج، ووضع «القارة العربية» كلها في خطر داهم!! القدس العربي