لا أحد بمقدوره التقليل من شأن التطورات السياسية التي شهدتها ليبيا مؤخراً، والتي برهنتْ على أن الطريقَ التي تقود إلى الاستقرار والسلام في المتناول، إذا توفرت النيات الطيبة، وأُتيحت الفرص أمام الحوار السلمي للحضور والوجود. وتبيّن للجميع الآن، وبقاطع الأدلة، أنَّ ما تم تحقيقه في جلسات الحوار، في فترة زمنية قصيرة، فشلت كل الحروب مجتمعةً في تحقيقه في أعوام مديدة. خلال أقل من شهر واحد، وبمبادرة ودعم من البعثة الأممية في ليبيا، نجح الحوار في حلحلة الأزمة، وتمكن من وضع البلاد والعباد على قضبان سكة سفر جديدة. وحين يعلو، قريباً، هدير محرك القاطرة مؤْذِناً بالتحرك نحو الجهة الموعودة والمأمولة، من المحتمل جداً أن تجد حكومة الوحدة الوطنية الجديدة نفسها، بعد مسافة قصيرة، أمام مفترق طرق. طريق قصيرة بعلامات، وتقود إلى بر أمان، وإلى عقد انتخابات رئاسية وبرلمانية في شهر ديسمبر (كانون الأول) القادم. وطريق أخرى دائرية بلا مخارج، وبمخاطر لا تُحصى. المؤشرات في أغلبها، حتى الآن، تؤكد أن الحكومة الجديدة، برئاسة السيد عبد الحميد دبيبة، ستتفادى الطريق الدائرية المغلقة، بحرصها على تنفيذ ما تعهدت به من وعود، وعلى رأسها عقد الانتخابات في موعدها. لنأمل ذلك، ولنبتهل إلى الله أن يكون في العون، ويجنّبها شرور ما قد يُلقى في طريقها من عراقيل متوقَّعة من عناصر داخلية وجِهات خارجية معروفة، ومصالح متنافسة على الثروة والنفوذ. وما حدث مؤخراً من تطورات إيجابية، لا ينفي حقيقة أن هناك أسئلة عديدة ما زالت تُطلُّ برؤوسها في الأجواء، ومن غير المتوفر، حالياً على الأقل، إجابات لها. الأسئلة تتعلق بتحدّيات ذات صلة بالكيفية التي ستتعامل بها القيادات الجديدة، على مستوى المجلس الرئاسي وحكومته، مع الإشكالات العديدة المتراكمة التي ورثتها، في واقع مقسوم، ولم يعد سوء أحواله بخافٍ على أحد، وبمشكلات لا حدّ لها. وكيف ستواجه عدائية العناصر المتحكمة في مسارات الواقع الليبي منذ سنوات؟ تأتي في المقدمة مسألتان شديدتا الارتباط بعضهما ببعض: الأولى محلية، وتخصّ وجود الجماعات المسلحة وانتشارها في كل أنحاء البلاد، وما قد تسببه من توترات وحروب. ولم يصدر عن تلك الجماعات، حتى الآن، بيانات ترحيب بالمجلس الرئاسي الجديد وحكومته، أو تعهدات بالتزام التقيد بوقف إطلاق النار، وعدم الانجرار إلى التحارب. وكل ما فعلته حتى الآن هي المتابعة الحذرة عن قرب لما يجري، وبصمت مريب. والأخرى خارجية، وتتعلق بالقواعد العسكرية الأجنبية وبآلاف الجنود المرتزقة الموجودين، غرباً وشرقاّ وجنوباً. الأيام الماضية شهدت تحركات سياسية إيجابية ومهمة، تجري بين عدة عواصم عربية وإقليمية وأوروبية، على مستوى الدول المتورطة في الصراع على النفوذ في ليبيا. وتابعنا، عبر وسائل الإعلام، بابتهاجٍ، مبادرات، وإن كانت خجولة، لكنَّها بنيّات هدفها نزع فتيل التوتر بين تلك العواصم، بغرض التعاون على تحقيق سلام يتيح فرصة لعودة الأمن والاستقرار. الحكومة الجديدة، ولنكن واقعيين، لن تتمكن وحدها من لجم الجماعات المسلحة، فما بالك بإقناعها بنزع سلاحها وتفكيك مقرّاتها، ما لم تكن مدعومة وبقوة من المجتمع الدولي، ومن منظماته، التي بمستطاعها ممارسة الضغوط على الدول العربية والإقليمية والأوروبية المتنافسة على النفوذ في ليبيا، بضرورة الالتزام بهدنة وقف الحرب، والتعهد باحترام قرارات مجلس الأمن الدولي بحظر تصدير السلاح إلى البلاد. وفيما يخصُّ الأولويات، ستجد الحكومة الجديدة أمامها تركة كبيرة متراكمة من مشكلات معيشية تشبه مخلّفات حرب، تركها المجلس الرئاسي السابق وحكومته، ولم يتمكنوا حتى من إيجاد حلول لمشكلة تراكم القمامة في الشوارع والميادين في معظم المدن. ذلك أنَّ المجلس الرئاسي السابق وحكومته وجدوا أنفسهم، منذ البداية، محاصَرين بمطالب الجماعات المسلحة المتنافسة على الغنائم، وحروبهم التي كانت لا تعرف توقفاً. وسرعان ما أصبحت دواوين الحكومة ومَن يقودها دُمى بين أياديهم يتلاعبون بهم. مضافاً إلى ذلك، الشدّ والجذب والتصارع الذي وَسَم مجلساً رئاسياً متكوناً من تسعة أعضاء، تم تجميعهم على عَجَل، ولا يتفقون على شيء، وكلهم تنقصهم الخبرة والتجربة والحنكة السياسية في إدارة شؤون الدولة. لذلك سرعان ما دبّ الخلاف بينهم، واستقال مَن استقال منهم، ومَن بقوا منهم لم يكونوا قادرين على تحريك ساكن. ولم يكن غريباً أنهم فشلوا في مهامهم بشكل مخجل، وراكم فشلهم أعباء معيشية على كواهل مواطنين وقعوا بين مطرقة إخفاق الساسة وسندان تغوّل قادة الجماعات المسلحة وحروبهم. فبدأت المشكلات في الظهور واحدة تلو أخرى، من غياب السيولة النقدية في المصارف إلى الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي ومياه الشرب، وتفاقم سرقة المال العام، خصوصاً في مجال منح الاعتمادات الخارجية بالعملة الصعبة، إلى شركات لا وجود لها إلا في مستندات ورقية. لا أحد يتوقع من المجلس الرئاسي الجديد وحكومته إيجاد حلول لكل تلك الإشكالات في فترة زمنية قصيرة، لأنَّهم لا يملكون عصا سحرية. لكنهم، من ناحية أخرى، بإمكانهم العمل على توفير الأساسيات المعيشية، والتقليل ما أمكن من عمليات نهب المال العام، وإظهار شيء من الحزم في محاسبة المتورطين في الفساد. الشرق الأوسط