عندما نقول الاقتصاد الرقمي، فإن ذلك يعني ليس فقط استخدام التقنية الرقمية لتعزيز أداء الأعمال والنشاطات المختلفة وجني الفوائد من خلال ذلك، بل يعني أيضا إنتاج التقنية الرقمية بما يؤدي إلى الحد من استيرادها من جهة، والسعي إلى تصديرها من جهة أخرى، وجني الفوائد أيضا من خلال ذلك. يهتم هذا المقال، والمقال المقبل المكمل له، بالجانب الأول من الاقتصاد الرقمي، أي: جانب تحول الأعمال المختلفة إليه، وبالذات تلك القابلة للتنفيذ رقميا التي تتزايد باطراد مع التطور الذي تشهده التقنية الرقمية. ولعل من المفيد في طرح هذا الموضوع أن يسعى المقال الأول إلى تقديم المفاهيم الرئيسة المرتبطة بالاقتصاد عموما، تمهيدا لمناقشة جانب التحول الرقمي وأثره فيها في المقال المقبل، والدعوة بالتالي إلى الاهتمام بهذا التحول، حرصا على مواكبة العصر، وتعزيزا للقدرة على الأداء بشكل أفضل في شتى المجالات، وعلى المنافسة مع الآخرين. تعود جذور كلمة اقتصاد Economics إلى لغة بلاد الإغريق (اليونان)، وبالذات إلى الكلمة Oikonomia التي تعني إدارة المنزل، وقد عرف الفيلسوف أرسطو Aristotle الذي عاش في القرن الرابع قبل الميلاد، الاقتصاد على أنه: "علم يختص بإدارة المنزل". والمنزل بالطبع هو الوحدة الاستراتيجية الأساسية في حياة الإنسان أينما كان. وتحتاج، هذه الوحدة، إلى تدبر الحال عبر تفعيل المصادر المتاحة لتقديم مخرجات مفيدة، والسعي إلى الاستفادة منها في تأمين المتطلبات، بأفضل الطرق، وبما يحقق الأمن والأمان لجميع المنازل، ويعزز استمرار حياة كريمة للجميع. وبالطبع، ليس المنزل وحدة استراتيجية معزولة، بل إن هذه الوحدة جزء من مجتمع فيه منازل كثيرة ذات مصالح متداخلة، وعوامل للتنافس بين أعمال أبنائها، إضافة إلى تبادل المنافع فيما بينهم أيضا. وتخضع المجتمعات إلى إدارة الدول التي تنتمي إليها في إطار وحدات استراتيجية أكبر. وعلى مستوى الدول يعرف العالم الشهير آدم سميث Adam Smith الملقب بأبي الاقتصاد Father of Economics الذي عاش في القرن ال 18 للميلاد، الاقتصاد بقوله: "إنه العلم الذي يبحث في طبيعة ومسببات ثروة الأمم". بناء على هذا التعريف نجد أن هذا العلم يبحث في أمرين رئيسين اثنين: يهتم أولهما بكيفية توليد الثروة، ويركز الآخر على كيفية إنفاقها والاستفادة منها. ولعل من المفيد هنا أن نضيف، أمرا ثالثا إلى هذا الموضوع وهو: تشغيل اليد العاملة في مسألة توليد الثروة، ثم أثر ذلك في مسألة إنفاقها والاستفادة منها. ففي هذا الأمر بعد إنساني مهم للاقتصاد، يعتمد على فكرة الشراكة المجتمعية في توليد الثروة، حيث يعود ذلك بالفوائد المباشرة وغير المباشرة على الجميع. تبرز في مسألة توليد الثروة قضية المصادر والوسائل اللازمة لذلك، وتتصف هذه المصادر بأنها محدودة. ومن ناحية أخرى، تظهر في مسألة إنفاق الثروة والاستفادة منها، قضية متطلبات الإنسان التي تتصف بأنها متزايدة وغير محدودة. وفي هذا الإطار يحلو للبعض أن يقول: إن الاقتصاد هو كيفية استخدام المصادر المحدودة من أجل الاستجابة إلى متطلبات غير محدودة. لكن الموضوع ليس كذلك بالطبع، فقدرة الإنسان على الاكتشاف والإبداع والابتكار، ترفد المصادر بإمكانات متجددة للاستجابة للمتطلبات، كما توفر للمتطلبات معطيات متجددة تحقق الرفاهية والحياة الأفضل. ينتمي علم الاقتصاد كما هو واضح من مضامينه، إلى العلوم الاجتماعية، لكنه في هذا الإطار يتفاعل مع شتى العلوم التطبيقية، وموضوعات الحياة المختلفة. ويشمل ذلك الزراعة بحقولها المتعددة، والصناعة بتخصصاتها الكثيرة، والخدمات بمجالاتها الواسعة. وينظر إلى الاقتصاد عادة من منظورين اثنين: منظور يعرف بالاقتصاد الكلي Macroeconomics، ثم آخر يعرف بالاقتصاد الجزئي Microeconomics. يركز الاقتصاد الكلي على الأداء الاقتصادي على مستوى الدول. ويشمل ذلك طبقا للبنك الدولي World-bank: التغيرات في المخرجات الاقتصادية، وارتفاع الأسعار أو ما يعرف بالتضخم، ومعدلات تبادل العملات، وميزان المدفوعات بين مدخلات الدولة المعنية ومخرجاتها، وقضايا العمالة والوظائف المتاحة، ومسائل الحد من الفقر، واستدامة النمو، وغير ذلك. وتعطي نتائج الاقتصاد الكلي الحصيلة الجامعة للاقتصادات الجزئية. وهنا يعود الاقتصاد إلى جذور إدارة المنزل، وإدارة الإنسان الفرد لحياته الاقتصادية، وإدارة المؤسسات المختلفة لأعمالها، وحالة الأسواق والأسعار، وتفاعل مخرجات المؤسسات مع متطلبات السوق، وأثر الضرائب، وغير ذلك. ويبرز في هذا الإطار ما يعرف بالاقتصاد السلوكي Behavioral Economics. ينظر الاقتصاد السلوكي في مسألة سلوك الإنسان في السوق، بمعنى توجهاته نحو هذه السلعة، أو تلك، أو هذه الخدمة، أو تلك. وعلى ذلك، فإن على المؤسسات التي تقدم منتجاتها وخدماتها في السوق أن تأخذ في اعتبارها هذا السلوك، وألا تعتمد فقط على القواعد الحسابية، فلرغبات الإنسان وتوجهاته جانب نفسي Psychological لا بد من أخذه في الحسان. في هذا الإطار يتداخل علم الاقتصاد مع علم النفس. وعلى ذلك، لم يكن غريبا أن يحصل عالم النفس دانيال كاهنيمان Daniel Kahneman على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2002، رغم أنه يقول إنه لم يدرس، أو يدرس، مقررا واحدا في الاقتصاد في حياته، لكنه بحث في سلوك الإنسان في السوق. ونصل إلى اقتصاد التحول الرقمي لنقول إنه لا يقدم مفاهيم جديدة تؤدي إلى تغيير المفاهيم الاقتصادية التقليدية الرئيسة سابقة الذكر، بل هو يدعمها ويعزز إمكاناتها عبر الوسائل الرقمية التي يعطيها. فهو يرتقي بمستوى أداء الأعمال المختلفة التي تسعى إلى توليد الثروة، وهو يعزز الأداء في إنفاقها وزيادة الاستفادة منها، ويفتح آفاقا جديدة للعمل والإنتاج، وهو بكل ذلك يخدم الاقتصاد الجزئي، ويفعل الاقتصاد الكلي، كما أنه يساعد على استيعاب حالات الاقتصاد السلوكي من خلال جمع المعلومات السلوكية بسهولة في المجالات المختلفة. لكنه يتطلب تغيير أساليب العمل، ليواجه ما هو معتاد من هذه الأساليب عبر الأعوام. وهنا تبرز الحاجة إلى تفعيل اقتصاد التحول الرقمي وإبقائه حيا ومتطورا.