من المهم قبل أن تسأل عن ثروات أي بلد الطبيعية وموقعه الجغرافي وديانته وانتمائه العرقي والثقافي الحضاري، هناك سؤال آخر مهم جداً يتصل بالخصائص الديمغرافية للشعب، ومنها يمكن أن تدرك قوته في الحاضر والمستقبل والقوة الكامنة والضعف المخفي فيه. لقد كان التباهي بكبر حجم الأسرة وكثرة أولادها وتعدد الأعمام والعمات والأقارب يمثل مصدر قوة للأسرة رمزياً وفعلياً، والآن يهيمن على الأسرة شكلها الحداثي بعد أن تحولت من الأسرة الممتدة إلى الأخرى النواة. تراجعت هذه الثقافة وخفت بريقها إلى حد كبير. في مقابل ذلك، ظلت ديمغرافيا، الشعوب محافظة على ثقافة الأسرة الممتدة: فالحجم الديمغرافي للشعب محدد من محددات القوة لأي دولة ودليل امتداد جغرافي. كما أنه كلما ازداد حجم الشعب ديمغرافياً كانت فرصة بروز النبهاء والعباقرة أكبر باعتبار أن الكم يفرز الكيف بالضرورة. لذلك؛ فإن تقدير مكانة أي شعب والتخمين بخصوص سيناريوهات التطور والتقدم ترتبط في جزء وافر منها بالخصائص الديمغرافية التي تحدد بدورها البلد الذي يعرف تحديات ديمغرافية والبلد الذي نقطة قوته تكمن في ملامحه الديمغرافية. طبعاً لا يمكن بناء سياسات ورسم مخططات تنموية دون أن تتم الإحاطة بالخصائص الديمغرافية، وعلى رأسها التعدد السكاني وتوزيع السكان حسب متغيرات السن والجنس ومعدل الخصوبة ومعدل الولادات والوفيات والأمل في الحياة لدى الجنسين ونسبة الشباب ومعدلات التشغيل والبطالة… إنّها حزمة من المعطيات دونها لا يمكن معرفة أي مجتمع ولا وضع سياسة له ولا رسم رؤية اقتصادية تناسبه وتوظف إمكاناته. أيضاً، من المهم الإشارة إلى أن الديمغرافيا من الموضوعات التي تمثل نقطة قوة في الفضاء العربي الإسلامي، حيث إن البلد الذي يمتاز بديمغرافيا شابة ونسبة تهرم ضئيلة وأمل حياة تجاوز ال75 سنة مع معدل خصوبة يتجاوز النقطتين يمكن القول إنه بلد يحمل مستقبله في خصائصه الديمغرافية. وكي نفهم جيداً هذه المسألة ونتبين أهميتها يكفي أن نعاين قلق الدول ذات معدلات الخصوبة المنخفضة والتي تعرف مشكلة العزوف عن الزواج، وتكوين أسرة وإنجاب الأبناء. ففي أوروبا الشرقية النخب السياسية تكابد من أجل معالجة معدلات الخصوبة وتسنّ القوانين وتتخذ الإجراءات الكفيلة بالتشجيع على الإنجاب مثلما هو الحال في المجر، حيث الإعفاء الضريبي للنساء اللواتي ينجبن الطفل الأول قبل الثلاثين عاماً والإعفاء الضريبي مع تسهيلات للحصول على مسكن بالنسبة إلى الأسرة التي يتجاوز فيها عدد الأطفال الأربعة وتتعهد الدولة بتقديم خدمات رياض الأطفال مجاناً للأطفال كافة دعماً للأم وتشجيعاً لها على عدم ربط الإنجاب بالتفريط في الحق في العمل. وفي سلوفينيا من أجل التشجيع على الإنجاب، فإن الأم تتمتع بعطلة ولادة خالصة الأجر على امتداد 13 شهراً. قد يتساءل البعض: لماذا بلد مثل سلوفينيا الذي يبلغ عدد سكانه مليونَي نسمة يقرّ مثل هذه الإجراءات؟ الإجابة هي أن معدل الخصوبة والإنجاب تراجع كثيراً، وهو مؤشر يقلق أي بلد يفكر في المستقبل والجيل الذي سيرث البلد. والأمر لا يتعلق فقط بأوروبا الشرقية؛ فإيطاليا أيضاً تعرف تحديات ديمغرافية مقلقة وألمانيا التهرم السكاني يهيمن على مجموع السكان. وهنا لا بد من الإشارة الخاطفة إلى أنه من بضعة عقود وجدت النخب الليبرالية اليسارية في أوروبا الحل في المهاجرين كيدٍ عاملة وتعويض لما يعوز الديمغرافيات فيها. غير أن هذا الخيار التاريخي تواجهه القوى اليمينية بالرفض وترى فيه خطراً وليس حلاً وهي مستعدة كلما بلغت سدة الحكم إلى سن إجراءات خيالية ومغرية كي تحفز على الإنجاب وبناء الأسرة. إذن، لا سياسة كبرى بالمعنى الماكرو سياسي خارج الخصائص الديمغرافية. وأيضاً الديمغرافيا هي التي تحتم طبيعة المنتجات والأسواق ووتيرة الاستثمار ومجالاته. بالنسبة إلى بلداننا العربية والإسلامية، فإننا نمتلك نقاط قوة في الخصائص الديمغرافية وتحدياتنا متفاوتة وقابلة للمعالجة. دون أن يفوتنا أن الحراك الذي باتت تعرفه مجتمعاتنا يبدأ يفعل فعله في تغييرات الديمغرافية، ولكن تظل التحديات بعيدة ومحكومة بثقافة قائمة على أهمية الأسرة والزواج وترى في الأبناء زينة حياة الدنيا حتى لو أصبحت هذه الثقافة خاضعة إلى شيء من العقلانية. نلاحظ أن أوروبا تطرح قضية الديمغرافيا وأصبحت هذه القضية موضوع نقاش سياسي وعمومي ومستقبلي، في حين أننا لا نكترث بهذه المسألة ولا نعاين التحولات الطفيفة الديمغرافية التي حصلت في مجتمعاتنا على إثر عمليات التحديث التي عرفتها خلال العقود الأخيرة. نحتاج في كل بلد إلى ندوات علمية حول الخصائص الديمغرافية في كل بلد من بلداننا مع الحفر العلمي المختص في نقاط القوة والتحديات على المدى القريب والمتوسط والطويل. الشرق الأوسط