تتوالى الأحداث بشأن فلسطين بسرعة، كأنها تحاول تدارك ما ضاع من وقت منذ ضياع فلسطين التاريخية قبل 76 عاما، والتقاط لحظة قد لا تتكرّر، فسمعنا، الأربعاء 22 من الشهر الماضي (مايو/ أيار)، إعلاناً ثلاثياً، أيرلندياً إسبانياً نرويجياً، رسمياً، بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، يدخل حيز التنفيذ بعد ستة أيام. وفي مساء اليوم نفسه، أعطى رئيس كولومبيا غوستافو بيترو أوامره بافتتاح سفارة لبلاده في رام الله بعد فترة وجيزة من قطع علاقاتها مع إسرائيل، وسويعات قليلة بعد الإعلان الثلاثي، صدرت تصريحات عن الخارجية البلجيكية تمهد لخطوة مماثلة، في امتدادٍ غير معلن لإشارات أيرلندية بأن مزيدا من الدول الأوروبية ستعلن اعترافها بالدولة الفلسطينية في الأسابيع المقبلة. تتلاحق هذه التطوّرات، بعيْد إصدار محكمة الجنايات الدولية مذكّرة اعتقال بحق رأس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه يوآف غالانت، وثلاثة من قادة حركة حماس، أشعلت النقاش وردود الفعل، منها ما وصل إلى حد تهديد المحكمة ومدعيها العام كريم خان وأعضاء اللجنة التي أصدرت أوامر الاعتقال … وتأتي أيضا فيما متابعون عرب كثيرون كتبوا في مواقع التواصل عبارات الخيبة والإحباط من مخرجات القمّة العربية في المنامة، وبيانها الفضفاض المنفصل عن الأحداث الجسام والمخاطر التي تحدق بالمنطقة، وعبارات أخرى تقارن بين جسارة حراك طلبة الجامعات الغربية الشجعان وتذبذب جامعات العرب ومراوحتها مكانها نبرة و"قرارات" إن وجدت. ولهذه الأسباب مجتمعة ولغيرها، خصوصاً المتعلقة بالتداعيات المحتملة لخطوة الاعتراف من إسرائيل، يعتبر ما أتته أيرلندا وإسبانيا والنرويج فعلاً جريئاً وشجاعاً، يؤذن بدخول القضية الفلسطينية مرحلة جديدة تماماً. أربك بعضهم و"لخبط" حسابات آخرين، وهناك من اطمان إلى أن هامش القرار الحر والعقلاني لا يزال متاحا في مرحلة شديدة الانفعال وشديدة الاصطفاف. وفي هذه الخضم، ذهب بعضهم إلى تفسير اعتراف النرويج بالدولة الفلسطينية بأنه "تكفير" متأخّر عن "خطيئة" استضافة هذا البلد محادثات اتفاق أوسلو السرية في العام 1993، فيما لا تعدو العاصمة النرويجية أن تكون مجرّد مكان لهذا. وهناك من فسّر موقف أيرلندا بأنه جزء من مناكفة دبلن التاريخية مع لندن في سياق خلاف طويل الأمد. أما إسبانيا فهي، في وجدان عرب كثيرين، الأقرب إليهم وإلى قضاياهم، متناسين أنها جزء أصيل ومهم من الاتحاد الأوروبي الذي يتّخذ قراراته المفصلية والمصيرية بالإجماع في أغلب الأوقات. ورغم ثبات الدول المحورية في الاتحاد الأوروبي على موقفها الداعم إسرائيل دعما لا مشروطا، فقد اهتزّت إسرائيل أمام الإعلان الثلاثي، ولأنها لم تعد تملك في هذه المرحلة من الفشل الذريع في تحقيق أهدافها المعلنة من حربها الوحشية على قطاع غزّة وأهله، غير التهديد والوعيد والمزيد منهما، فقد سارع وزير المالية في حكومة الحرب، سموتريتش، إلى التلويح ببناء "مستوطنة جديدة مقابل كل دولة تعترف بإسرائيل"، فيما وصف نتنياهو نية دول أوروبية الاعتراف بالدولة الفلسطينية ب"المكافاة للإرهاب". واستدعت وزارة خارجية دولة الاحتلال سفراء الدول الثلاث صاحبة قرار الاعتراف "للتوبيخ"، واستدعت سفراءها من تلك الدول للتشاور.. وذلك كله في مشهدٍ تبدو فيه إسرائيل وهي تقف على أرضية منزلقة وشديدة الانحدار. وتنافح، مع ذلك، في كل الاتجاهات وتقارع وتحرّض وتبتزّ وتؤنّب وتتظلّم، وتصم في ذلك كله أذنيها حتى عن أخلص حلفائها الذين قد ينصحونها بأن توقيت التصعيد ليس في صالحها. في ظرف دقيق وشديد الحساسية كالذي تمرّ به الحرب المأساوية على غزّة، والذي يُحسب فيه كل تصريح وموقف وخطوة بمنطق خاص يحيلها إلى التاريخ لتقييمها لاحقا، يجدُر بالمتابع الحصيف مراقبة مدى مطابقة الأقوال للأفعال، ومدى اتّزانها واستنادها إلى رؤية وغاية وهدف تميزها عن الردود الانفعالية التي تنبئ عن شرخ يتعاظم كل يوم، رغم محاولات إخفاء حجم الخلافات الداخلية، ورغم بنيان يتآكل لا يرى علامات تآكله من يتقوقعون داخله، ويرفضون أخذ مسافة بينهم وبينه من أجل الحصول على مدى أفضل للرؤية والإدراك. وهي صورة تنطبق تماما على ما صدر عن حكومة نتنياهو من قرارات وإجراءات فورية تدل على فداحة الخسارة التي تتكبّدها، وانحسار هامش المناورة الذي لطالما ظلت تصول فيه وتجول بأريحية ظنت أنها أبدية، فقد سارع وزير الحرب، غالانت، ردّا على إعلان الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بإعلان منه بإلغاء قانون فك الارتباط بالكامل مع الضفة الغربية، ما يعني السماح بعودة المستوطنين في شمالي الضفة الغربية إلى أربع مستوطنات كان قد جرى تفكيكها، في انتظار خطوات أخرى تنسف مجرّد فكرة "الكيان المنفصل"، فما بالك بفكرة الدولة المنفصلة والمستقلة. ولم تمض ساعات حتى داهمت أجهزة الأمن الإسرائيلية مكتب وكالة أسوشييتد برس (أميركية) وصادرت معدّاتها، وأوقفت بثها الحي الذي يظهر المشهد في شمال قطاع غزّة من موقع في مستوطنة سديروت بحجّة مخالفة القانون. وتتوالى الأحداث ليفاجأ المجتمع السياسي والأمني والإعلامي بنشر مشاهد مربكة وصفت بال"ملفقة والمبتورة" للحظات احتجاز مقاتلين من حركة حماس مجنّدات إسرائيليات خلال عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، يثير توقيت تداولها وتركيزها على تعابير الخوف وآثار "دماء" على وجوه المحتجزات شكوكا وتساؤلات عن حقيقة أهدافها. ومن حسن حظ إسرائيل أو سوء حظّها أن أفعالها لم تعد تتطلب تخميناً كثيراً لإدراك مراميها ونياتها، إذ جاء نشر هذا الفيديو بعد ساعات من الإعلان الثلاثي عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، فما الغاية من تلك المشاهد إن لم تكن لتلطيخ صورة الفلسطينيين وإظهارهم قتلة وليس ضحايا، وتخويف المجتمع الدولي وأي دولة تنوي الانضمام إلى قائمة الاعتراف بدولتهم. وتدلّ هذه الردود المحتقنة والمتتالية على حالة رعب أصابت قادة إسرائيل الذين يعلنون بلا مواربة أنهم نذروا أنفسهم لمنع قيام دولة فلسطينية وهم على قيد الحياة، فاذا بهم يعجّلون، من حيث لم يقصدوا، بإعلانها ورؤية براعمها تخترق تربةً مرويةً للتو بالدماء، فتجهد أبواق دولة الاحتلال، وقد تجاوزها المنطق والواقع، ولم يعد بإمكانها التيئيس من فكرة قيام دولة فلسطينية، لتذهب باتجاه التتفيه والتمييع، وقد سمعنا أحدهم يحاضر على إحدى الشاشات عن الموانع الموضوعية، بل المستحيلات، أمام قيام دولة فلسطينية، ومعدّدا، بسخريةٍ تخفي الكثير من الخوف والمرارة، كيف أن إسرائيل هي المتحكّمة في الماء والكهرباء والطرقات والدواء والعملة والعمل والحركة والحدود والميزانية في حياة الفلسطينيين، فمن أين لهم بدولة مستقلة يعترف بها المجتمع الدولي ويقيم معها علاقات؟ وفي نبرة تفتقر إلى الثقة، يشار إلى واشنطن، أو بالأحرى يتكّئ عليها، طرفاً وحيداً في العالم يمسك بزمام القضية الفلسطينية، لا يتحرّك ملفٌّ من ملفّاتها بدون ضوء أخضر منها، وبمقادير هي وحدها من يقرّرها، ولا ولن ينافسها في ذلك منافسٌ ولا شريك، إلا أن مؤشّرات كثيرة تدلّ على تراخي القبضة الأميركية وخروج القضية الفلسطينية من دائرة احتكارها التي لم تحقق لها مكاسب تُذكر، وهي توشك على دخول عقدها الثامن. ويندرج أحد هذه المؤشّرات ضمن صراع غربي روسي، نشهد إحدى أشرس جولاته، ويشمل، في ما يشمل، الدبلوماسية الدولية وملفات الصراع الشائكة طويلة الأمد، ويتردّد أخيراً حديثٌ جادٌّ عن التمهيد لدعوة روسية صينية إلى عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط يبني على الزخم الذي راكمته حرب غزّة التي تؤسّس فعليا لتاريخ جديد. لا مصادفات في السياسة عموماً، ولا مجال لإضاعة الفرص والمواعيد الكبرى مع التاريخ، ولا لمزايدات من قبيل: لمن يعود الفضل في مبادرة دول أوروبية فاعلة إلى الاعتراف بدولة فلسطينية، السلطة الوطنية أم حركة حماس والمقاومة المسلحة، فالمقام لا يسمح لا أخلاقيا ولا إنسانيا ولا مبدئيا، إذ يجدر بالفلسطينيين، مقاومة وسلطة، أن يتعلّموا كيف يحرمون إسرائيل من الذرائع التي استخدمتها عقوداً للتهرّب من استحقاقات المفاوضات بالشكوى من عدم وجود مُحاور جدّي وسط انقسامات تتفنن في صنعها بينهم ويزيدونها هم تعميقاً. ولم يحدُث أن مالت موازين الروايتين الإسرائيلية والفلسطينية كما تميل اليوم تلقائياً إلى الحق الفلسطيني، فقد تأكّد أن الوقائع أصدق من الأقوال، وقد طبعت في عقول الملايين بعد عيونهم، وهزّت وعياً جماعياً متعاظماً بأن الساكت عن جرائم اليوم ووحشيتها سيكون ضحيّتها غداً، فإن لم يكن الضمير محرّكا كافيا للتغيير، فليكن الخوف. لا بأس، وستُخبرنا الأيام المقبلة بما نتوقّع وما لا نتوقّع. العربي الجديد