لعل الجميع منّا قد لاحظ خلال سيره في العاصمة أو طالت مسامعه أهازيج لفرقة موسيقية مرفوقة بدقات قرع الطبل الممزوجة بنغمات صحراوية وبلهجة غليظة يصعب فهمها على الكثير منا ،تتراقص أجسامهم على تلك النغمات مستعملين اليدين والأرجل وهز الكتف بحركات خفيفة ورشيقة تستدعي الوقوف عندها والاستمتاع بجمال تلك المشاهد،إنّها فرقة "القرقابو" أو "بابا سالم "كما هو متعارف عليها عند العاصميين. ونحن نرصد ذلك المشهد فإذا بنا نرى شرفات المنازل مملوؤة بالنسوة اللواتي اصطففن يتفرجن على تلك الأجواء الاحتفالية . اقتربت منهم, لنفهم مضامين هذا النوع الموسيقي الغريب والذي تتصاعد أسهمه، في سماء العاصمة فقد اتجهنا صوبهم سائلين إياهم عن سرّ هذه العادات التي يطلّون علينا بها بين الفينة والأخرى، تاريخ هذا النوع الغنائي وطقوسه لكنه امتنع عن الحديث معنا وادعى انشغاله بجمع المال ملوحا بيديه المشاركة في تبرع بالمال لفك ضيق الآخرين. وبعد جهد كبير تمكنّا من إقناعه بالحديث معنا. و أكّد لنا انه قدم من مدينة بشار في أقصى الجنوب الغربي للجزائر، موسيقاه يتربع حاليا على عرش الغناء في الغرب الجزائري والصحراوي يقول حسين رئيس الفرقة، أنهم لم يبتكروا جديدا، لكنهم أحيوا «طقوسا فنية» كادت تندثر بأقصى الجنوب الجزائري. وبعد تجوال بين أحياء العاصمة وخاصة الشعبية منها لجمع ما تيسر من مال وبعدها يعودون أدراجهم إلى بلدتهم لإقامة حفل كبير حيث تذبح العجول وتعد أطباق الكسكسى ،في جوّ كله توحيد لله وتذكير بمحاسن الوالي الصالح "سيدي بلال" الذي نحر على شرفه كل هذه العجول بمدينة بشار . يرجع محدثنا عودة نشاط هذه الفرق في السنوات الأخيرة إلى الرغبة الجماهيرية في العودة إلى الأسلوب الموسيقي المحلي ، كما يرى بأن ممارسة هذه الطقوس .تذكر الجزائري بشيء يسكن في أعماقه ذا طابع صوفي تقريبا، يمتاز بالأصالة وبالروح الاحتجاجية الكبيرة التي يعبّر بها عن رفض المظالم الاجتماعية التي تحدث ، ويصوغ هذا الألم على شكل أقاصيص رمزية، أو أناشيد حكمية وكذا مدائح دينية. يقول رئيس الفرقة أن نسب القناوة القدماء أنفسهم إلى الصحابي الجليل بلال بن رباح فإن بعض القناوة المعاصرين يتخذون من المناضل الأممي شيغيفارا رمزهم الأول. فموسيقى القناوة التي انتشرت بقوة مؤخرا في شمال إفريقيا وفي أوساط المهاجرين المغاربة، حافظت على طابعها الاحتجاجي وهو بطاقة هويتها الأولى، وابتعدت تدريجيا عن الطقوس الوثنية، لتكرّس نفسها كأسلوب غنائي يرتدي طابع الحكمة والرمز، ليشير إلى الفساد السياسي والمالي الذي يعشّش بمنطقة وجودها،. وأشار في السياق ذاته إلى لمسة التكافل والتضامن الذي عرف به الشعب الجزائري ويرجح أن يكون ذلك هو سر انتشارها بقوة في ظل موضة الصوفية الفنية التي تتسيّد الغناء العالمي حاليا، مضيفا أن الموسيقى انحصرت سابقا، في بعض المناطق، واستعملت في مناسبات معينة، مما جعلها تظل محدودة الانتشار، إلا أن إخضاعها للتعميم على كافة أنحاء الوطن .ولم تكتف الفرقة بالتزاوج بين الآلات بل عملوا على ترسيخ أفكار متوارثة عبر أجيال مجتازة كل الطابوهات بما فيها طابو الجسد، وحولوا أغانيهم إلى صرخات ضد التهميش والإقصاء والتذكير بالله ، بل والدعوة إلى التضامن والتكافل . ولحد الآن ما يزال بعض القناويين التقليديين يجوبون المدن والقرى الجزائرية بألبستهم المميزة وآلاتهم التقليدية. ويسمى الواحد منهم «القناوي» ويميل البعض ل«التبرك» به في طقوس احتفالية، كما تفعل بعض النسوة العاقرات حيث ينتظرن قدوم هذه الفرقة إلى سيدي بلال حتى يؤدين معه بعض الطقوس... أملا في الحصول على الذرية الصالحة. وتجد أخريات يجلبن أبناءهم قصد نزع الخوف أو"قطع الخلعة"و"قطع اللوزتين" وغيرها من الأمراض التي يمكن قطعنا بواسطة طقوس معينة. وبعيدا عن هذا يجدر التذكير. يضيف محدثنا بأن الكثير من أعضاء فرق القناوي أو قرقابو قد طوروا أداءهم وتخلصوا من تلك المعتقدات القديمة، فاحتفظوا بالشكل الموسيقي وبعض طرق التعبير الجسدي، وألبسوها الهموم السياسية والاجتماعية المعاصرة. وتبقى مثل هذه العادات راسخة في التراث الشعبي الجزائري يحتفلون بها مرة في السنة بعد تجوال لعدة مناطق من الوطن طالبا في المال للاحتفال أمام ضريح الوالي سيدي بلال وغيره من أولياء الله الصالحين .