الَفَقْرُ يَنْهَشُ فُتوَّتَهُ، وَالبَطَالة تَهُزُّ مَضْجعَهُ، فتحَ الله عليه ذاتَ رَبِيع، فانشأ مزرعةً بِدعْمٍ من الْبَنْكِ، كان خائفًا شاردَ الذِّهن، يُفَتِّش عن مفاتيحَ الْبِدَايَةِ، فيطمْئِنُه والدُه على تجاوُز حواجزَ الخوْف، ويُشجِّعهُ أن يكونَ له معْنى كالآخرين، ابْتَدأ مشْرُوعَه مترددا مُرتبكًا يستغْفِرُ الحُزنَ، كان يعمل وحده والناس من حوْله يَتعاونُون، انتابته ارتِعَاشَه، فيتوقف عن العمل، يفزع من مكانه يهتف إلى والده: إن جرذًا كبيرًا دخل البُستان فما العمل؟ أجابه الأب:هدِّئ من روْعِك ياولدي ! دَعْهُ يَمْرَحُ ويسرح فسيأتي يومه .. لم تمض إلا أيام قلائل وهتف إلى والده: إن ثُعبانًا ضخمًا دخل البستان والْتَهمَ الجِرْذَ، قال الأب: دعه.. سيأتي يومَه..أيَّام معدودات وهتف إلى والده مُتعجِّبًا: إنَّ قنفذًا يرْتدي دِرْعًا من الشَّوكِ انقضَّ على الثُعْبان فقتلهُ، ضحك الأبُ وقال: سيأتي يومَه، وماهيَّ إلا أيَّام قلائلَ وهتف إلى والده: أنَّه وهو يفتحُ منافذ للماء عَبْرَ السَّواقِي ضربَ القُنْفذَ برفشهِ فقتلهُ، قال الأبُ مُتأسفًا: سيأتي يوْمك يا ولدي..! مرَّت أيامٌ..وإذا بفرْقةٍ من الدَّركِ الوطني تُطوَّقُ البُستانَ ويأخذون الفتى إلى قصر العدالة لعدم التزامه بدفع مُستحقاتِ البنك..حضر الأبُ وطلب من القاضي أن يتوَلَّى الدِّفاع عن ولده، فوافق.. وبصوْت جهُور أخذ يُرافعُ ويقصُّ القصة من البداية إلى النهاية، استفاض في الشرح والتحليل، بينما القاضي يهزُّ رأسه مُتعَجِّبًا..و يستمهُله ليقول أكثرَ.. وهو يقول له: حسنا ..حسنًا.. فجأة صاح القاضِي: لا تكمل...رجاء..لا تكمل رجاءً... أفرجنا عن ابنك..خشيَّ القاضي أن يقول له سيَأتِي يوْمك..فقال الفتى مُتنهدًا سيِّدي الرَّئيس: الخوفُ كالحُزن يغوصُ في ذواتنا، ويُطاردُ بعضَ أحلامِنا، الخوفُ شُعورٌ طبيعيٌّ وردُّ فِعل دِفَاعِي لكنَّه أعْمقَ تجربَةٍ إنسانيَّةٍ يمرُّ بها المرءُ ولا يشعُر..لقد تعلمتُ أنَّ الحياة تقرأ صمتنا وهمْسنا..هزلنا وجدنا..حتى وانْ كانت الكلماتُ مُتواضعةً ستطرق ذاكرة الآخر بقوَّة، ستحْدُثُ فِي نفسه هزَّة كبيرة، فالكلمة حيَّة تتطوَّر ..تنمو..تتكاثرُ وتعِيشُ.. وسَيَأتي يَوْمَها فتنطفئُ، يَمضِي العُمر ولم نتعلم كيْف نَكونُ كالآخَرِين، نكتبُ بغُبَارِ الأيَّام ونسترجِعُ ما تسرَّب من الأعْمار، وتضِيعُ الأيَّام هباءً، نحنُ لا نملكُ وسيلةً إلا التخبُط في الوحَل، ثم نخلي المكان على حِين غمْضةٍ، ونتأبَّطُ خَصْرَ السُّؤال ولا نجيب. يتوجَّهُ الفتى إلى والدهِ مُتحسرًا: يا أبتي لماذا لا نمُوتُ بهدُوءٍ كالآخر.؟ قال:تعوَّدْنا ياولدي أن نُقْلِقَ رَاحَةَ بعْضنَا البعض بأنَّنا أمْوَاتٌ، لم نلتفتْ إلى أحوَالِنا حتى ضاعتْ الفرصُ، فقدنا الأملَ الغاطس في أحْلامِنا.. فعِشْنا مُضطربِين لانثقُ في أنفُسِنَا ولا في موْتِنا ونتجَاهلُ المصير، قال القاضِي: لماذا تتأسفُ ؟ سيأتِي يومَك أيُّها الأبُ الكريمُ..ردّ عليه الفتى: لملم أشلاءَ أفراحك أيُّها الرَّئيس العادل المنصف الخلوق ..! إنْ كنْتَ غيْر مُتشَائِم فَعنْقَاؤُك تنْتفِضُ..يتنفَّسُ القاضي زفِيرَ حَسْرتِه ويقول: ليس هُناك من هتفَ فَرِحًا حِينَ وُلِدَ، لكن بِتنَا أمواتًا في حقُول الصَّمتِ..نمنحُ العزاءَ للمُتخَاصِمِين والمُغامِرين وما أكلتْ الجِرْذان والثعَابِينُ والقنَافذ، ونُحْصي أخطاءَ المُزارِعِين والدَّاعِمين والمَدْعُومِينَ، والخَاطِفينَ والمَخْطوفين والمُنتحِرين، والمتسللين إلى الجيُوب.. انْبَسطت أسارير وجْهِ الْفتَى وهمَسَ إلى القاضِي: سيِّدي من لم يرْحَل سيأتِي يوْمهُ، هُم يرْحَلونَ رحلة الخُلود! انتفضَ القاضي وقال: تبًا لكم من بُؤساء..! سأحُطُّ رِحَالي في مَنْفَايَ.. وأشهدُ بأنِّي عِشت في زَمنٍ فقدَ فيهِ الإنسانُ إنسانيَتَهُ..! وعلا صوته : رُفِعَتْ الْجَلْسَة..