تتسم رواية "عشّاق نجمة" وهي جديد الكاتبة الفلسطينية سلوى البنّا، الصادرة عن دار الآداب في بيروت، بلغة رمزية غالباً، وتلبس لبوس الأسطورة أحياناً. أسطورة نشعرها تصلنا عبر الرواة، متضمنة عناصر تشويق جمة. هي "نجمة والزيتونة"، بنية متينة تبحر معها الكاتبة إلى فضاءات واسعة، تحث على السؤال. وبعد كل إبحار العودة حتمية إلى بحر يافا، حيث المرساة الراسخة "نجمة" مقيمة. تتداخل شخصيات الرواية وتتشابك في مساراتها، صفحة تلو أخرى، تتوإلى القراءة بتأهب وتأن وتركيز. ديدن السبك الروائي للبنّا يكمن في ولوجها إلى مسرح خصب، متعدد الأشخاص. معها تزدهر الحكايات بناسها. من علامات نصها وضعه لمتتبعه صفحة تلو صفحة في يقظة تامة. كاتبة تحفر طريق شخصياتها وترسمها بدقة متناهية. بيِّن بجلاء انخراطها في شكل روائي تجتهد ليكون عميقاً ووفياً لقضية شعب مشرّد، وعاشقاّ لنجمته التاريخية "فلسطين". إذن سلوى البنّا لا تكتب فقط بهدف المتعة الذاتية، في كل ما قدمته هي حيال هدف. ولا تترك لقارئها رحلة تنزه واسترخاء مع نصها، بل تدعوه من السطر الأول ليكون قلباً وقالباً مع كلماتها المسبوكة في خدمة الفكرة الأساس. ثلاث من شخصيات "عشّاق نجمة"، تجمعهم زنزانة، سامي المناضل اللبناني اليساري، لؤي الجزائري العروبي، وأبو المجد "العجوز الفلسطيني" كما يطلقون عليه، أو "مجنون نجمة". زنزانة رمز، وسجناء لهم رمزيتهم. زنزانة الوطن، أو الوطن العربي الكبير الزنزانة، لا فرق. الأكيد هو عشق "نجمة". الكل عاشقها. والعشق درجات، وأبو المجد عاشق يحيا بنبض قلب "نجمة". "نجمة" حية مدى الدهر، وكذلك أبو المجد، هي ليست "عالماً وهمياً" لهذا العجوز، بل واقعاً ينبض في دورة الدماء. اسهبت الكاتبة في توضيح المؤثرات البنائية في شخصية "لؤي الجزائري" الملقب ب"غيفارا الجزائر". الصدفة ليست واردة. هو فعل مقارنة رمزي، ومن بعيد بين ماضٍ يمثله لؤي لتفاعل المغرب العربي ووفائه ل"قضية العرب فلسطين"، وبين الحاضر. في الزنزانة الرمز تضيق فسحة الأمل، يستنجد أبو المجد ب"نجمة". وينفد صبر رفيقيه بتحليقه بعيداً عن الواقع. "كيف اخترعت نجمتك هذه"؟ هو السؤال الموجه لأبي المجد. . حياله يحار الآخرون، ومع "نجمة" هو يطمئن، ويهنأ. تُكثّف الكاتبة نصها، تترك بين سطور معدودة إمكانية لاستنباط رواية مستقلة إضافية. عناصر روايتها قابلة لمزيد من خصوبة الأحداث. رواية البنّا تسعى لقراءة الحاضر من خلال الماضي. هو الماضي المؤثر بنيوياً في مسار شخصيات الحاضر. فلسطين في نص سلوى البنّا على الدوام قضية تعيش بنبض عربي، وليس بفعل فلسطيني منعزل عن محيطه. "عشّاق نجمة" لا حصر لهم، أجيال خلف أجيال "يولدون كباراً ويموتون كباراً". ومن الملاحظ في الرواية الاستئناس بالرمزية حين تتضافر المؤثرات السلبية على ناسها. هي رمزيات بطعم العلقم. "نهض لؤي بهدوء عن الكرسي، قرّب وجهه من الطبيب وهمس: "هل تحفظ نشيد الثورة"؟ احتلّت الدهشة وجه الطبيب لثوان، وانتفض كمن لدغه عقرب! لكنه لم يلبث أن تهللت أساريره، فأمسك بالقلم وكتب "مجنون". رفع رأسه وابتسم "أقسم بضمير مرتاح أنك مجنون". ضغط على الزر مستدعياً الممرض ذا العضلات المفتولة، وأمره أن يضعه في عنبر المجانين". العمل الروائي الحديث الذي خرج من بين يدي البنا، نهل صوراً من الحاضر العربي المتسم بطابع ديني ظاهر على شتى المستويات. تقرأ الواقع انطلاقاً من كونه لصيقاً ب"نجمة"، أو مقصياً عنها. فحضور "نجمة" يشكل بوصلة الحركة في الرواية، وغيرها من روايات الكاتبة، اذ ليس عبثاً أن يحظى لؤي بشرف شهادة الجنون عندما يسأل لؤي طبيبه إن كان يحفظ نشيد الثورة؟ من الواضح أن الكاتبة حرصت على عمل أدبي يصب في هدف نقي وساطع لديها، هو وطنها فلسطين. حكت عن بعض أمكنته، لاسيما يافا ونابلس، وجانبت تماماً تلك الحميمية المفرطة، والحنين الهادر الذي نكابده من دون جدوى، حيال تلك الأرض المقيمة في ضمائرنا. بقي أبطالها يدورون ضمن مسار القيم الوطنية، الصمود، التصميم والوطن. وفي مقلب آخر كان لافتاً، أن خطوط الرواية من رئيسية وتفصيلية ولجت إلى الأمكنة. دخلتها بأناة وراحت تنكش في ذاكرتها. في تلك الذاكرة شكل "أبو المجد" الركن الثابت، والضمير الحي، "حين تموت الذاكرة... تنتهي القضية" يقول أبو المجد. كما بدأت الكاتبة روايتها بسبك متقن ومشاعر محتشدة، تابعت حتى السطر الأخير، "هذه هي المفاتيح"... "وهذه أوراق الطابو"... "وهذه الصور وشهادات الولادة"... كلمات يرددها الفلسطيني، ويورثها للأجيال. في نص سلوى البنّا أسطر تتضامن فيها المشاعر مع الواقع مع الصور الشاعرية بغزارة، حتى تخالها تتصبب حباً وحكمة وشوقاً. هو النبض الذي حرّك فكرها وقلمها، فإذا بفلسطين "نجمة" مضيئة حتى إن خانها النجم "الجبّار" لا بد سيعرف ألا حبيبات قبلها، ولا بعدها. ولا كرامة بدونها.