هل تسكن مدينة يافا على ساحل المتوسط أم أنه هو من يسكن ساحلها؟؟..قد لا يعرف سوانا من يحتسي من الآخر عناده وانتصاره.. أما نحن -من يعرف يافا- نشهر شهادتنا في ضحى التاريخ وأمام كل الشطآن وصناع الفلك وهواة الحياة أن البحر كلما اقترب من شواطئها ينحني بموجه ويؤدي لجمالها طقوس العشق ..عبقرية المكان انتخبت لها مهمتها عروس فلسطين وعروس الشام .. واجهت الفراعنة والرومان والصليبيين والحملة الفرنسية واجتاحتها حملات شريرة غازية كثيرة.. إلا أنها لا تلبث أن تعود مدينة الحيوية والجمال والتألق تزيح عن وجهها تعب السنين وأوساخ المحتلين.. وكما أن البحر لا تلوّثه قاذورات وسخائم الأرض تنتفض يافا لا يأخذ منها المحتلون سوى أن تقذفهم إلى البحر..أجل لقد صاغت البحر وموجه معزوفة حب وجمال فصاغها البحر فمه الباسم دوما ..تنفست بملء رئتيه فانتشى مزهوا عند جدائلها فكان معها وكانت معه عاشقين في هيكل الحب. * قبل أربعة آلاف سنة قبل الميلاد بنى أجدادنا العرب مدينة الجمال يافا مدينة توّزع الخير على كل البلاد المجاورة وتكون مفتاحا لها .. فتسابقت الغزوات إليها واحدة تلو الأخرى للسيطرة على مفاتيحها بعد أن أصبحت بوابة الشام والعراق فتعرضت للغزو الفرعوني والروماني حتى فتحها المسلمون وحرروها من الرومان وعاد لها رونقها ومكانتها وتعرضت فيما بعد للغزو الصليبي والتتاري والفرنسي والانجليزي والحملات كلها .. وعلى شواطئها تكسرت النصال على النصال كما زبد البحر. ولم يبق فيها سواها. * مدينة يافا ودورها في الحركة الوطنية الفلسطينية: * لعبت مدينة يافا دوراً ريادياً في الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة في مقاومة المحتل البريطاني من جهة والصهاينة من جهة أخرى. فمنها انطلقت ثورة 1920 ومنها بدأ الإضراب التاريخي الشهير الذي فجرّه القساميون والذي عَمَّ البلاد كلها عام 1936 . وقد شهدت يافا بعد قرار التقسيم معارك دامية بين المجاهدين وحامية يافا من جهة والصهاينة والانجليز من جهة أخرى. * قصّة نكبة مدينة يافا هي تكثيف لنكبة فلسطين ورد على دعاوى الغربيين الخبيثة عندما ادعوا أن الصهيونية جاءت إلى فلسطين لتجدها أرضا بلا شعب ..نكبتنا بيافا هي قصة تحوّل مدينة عريقة حيوية مهمة بل لعلها كانت أكثر حيوية من كل مدن المتوسط آنذاك، لقد تحوّلت بين ليلة وضحاها، إلى حي صغير وهامشيّ يعاني التمييز والجريمة والتدمير منذ عام 1948 وحتى يومنا هذا. * لقد كانت مدينة يافا أكبر المدن العربية الفلسطينية من الناحية الديموغرافية. بلغ عدد سكانها قبل النكبة 120 ألف، وفي الفترة ما بعد قرار التقسيم الصادر في 29 نوفمبر 1947 ونكبة فلسطين في 15 أيّار عام 1948، طردت العصابات الصهيونية مدعومة بالاحتلال الانجليزي ما يزيد عن 95 % من سكان المدينة .. وهم اليوم مشتتون في كافة بقاع الأرض. * يافا مدينة الاقتصاد الفلسطيني * يافا والحمضيات أيهما مشهور بالآخر؟؟ دخلت السوق العالمي في بدايات الثلاثينات تصدر ملايين صناديق الحمضيات إلى العالم الذي أصبحت علامة يافا عنده تعني الجودة والأصالة لقد كانت عاصمة فلسطين الاقتصادية، وهي بوابة كل الشامات والمنفذ البحري للعراق ..وفي يافا كانت مصانع سكب الحديد والزجاج والمنسوجات والحلويات وبناء هياكل وسائل النقل وصناعة المواد الغذائية..وفي يافا اشتهرت مهنة الصيد وملحقاتها من صناعة السفن والمراكب وأدب الصيد. * يافا مدينة الثقافة الفلسطينية * شكلت يافا أهم مركز ثقافي بفلسطين، فكانت منارة علمية ومنها تخرج العلماء والفقهاء والأدباء، وفي العصر الحديث كانت عاصمة الثقافة، حيث احتوت على أهمّ الصحف الفلسطينية اليوميّة- صحيفة فلسطين وصحيفة الدفاع- وعشرات الصحف والمجلات ودور الطبع والنشر، وفيها كانت أهم وأجمل دور السينما والمسارح في فلسطين، بالإضافة إلى ذلك انتشرت فيها عشرات النوادي الرياضية والثقافية، والتي أصبح بعضها معلما ثقافيًّا مميزا بتاريخ المدينة الحديث مثل النادي الأرثوذكسي والنادي الإسلامي. وقد ربط هذا البعد الثقافي يافا بأهم المراكز الثقافية العربية كالقاهرة وبيروت، وأصبحت إحدى منارات العلم والثقافة في المنطقة. * نكبة يافا * لم يتبق من أهل يافا فيها بعد النكبة إلا ما يقارب أربعة آلاف مواطن فلسطيني جمعهم الصهاينة في حي "العجمي" وهو أحد أحياء المدينة تحت حكم عسكري تمت إحاطته بالأسلاك الشائكة وبجنود يهود مع كلاب حراسة. * كانت أول صور النكبة لمن عاش في يافا هي فقدان بيئته الإنسانية التي تربى فيها وعرفها، فلقد مزقت النكبة النسيج الاجتماعي وشردّت الأهل والأصحاب في شتى البلاد. وقد نزعت منهم حقوقهم الأساسية كالعمل والتعليم، وحتى التنقل والخروج من حي إلى حي كان يتم فقط بموجب تصريح من الحاكم العسكري. * منذ اللحظة الأولى وضعت بلدية(تل أبيب- يافا) الصهيونية مخطط تهويد المكان، فعبرنت كل أسماء شوارع المدينة.. كما عملت على تغيير الطراز المعماري للمكان من خلال هدم جزء كبير من المباني القديمة، وهدم أحياء وقرى بكاملها. * كما وسيطرت الدولة الصهيونية على مناهج التدريس، وحاولت من خلال تزييف وتشويه التاريخ واللغة، ضرب الهوية والانتماء لشعبنا وأمتنا وتاريخنا، إلا أنها فشلت في ذلك فشلاً ذريعاً. * وبموجب قانون أملاك الغائبين الجائر نصبت الدولة الصهيونية موظفيها لحصر وتسجيل كل العقارات والمباني والمصانع والأراضي، فكل من كان بعيداً عن أملاكه خسرها لصالح دولة إسرائيل. وسيطرت الدولة أيضا على أملاك اليافيين الذين وضعتهم تحت الحكم العسكري بحي العجمي لأنهم لم يكونوا متواجدين فيها حين التسجيل. * عشرات المقابلات مع اليافيين الذين عاصروا هذه الفترة، تروي مآسي الناس اليومية، الذين كانوا على بُعد عدة أمتار من أملاكهم لكنهم حُرموا منها، البعض تحدث عن محاولته للعودة إلى بيته ليطلب من المهاجر اليهودي الجديد الذي استولى على البيت جزءا من فراش البيت أو بعض الصور والأشياء الرمزية أو عقد البيت، لكنه اعتبر عندها متسللا ومعتديا،..أما بالنسبة لبعض السكان الأثرياء من حي "المنشية" أليافي، تحدثوا عن معاناتهم اليومية بالمرور بجانب أملاكهم عاجزين عن استرجاعها، أخرى.ّ وقوفهم شهودا أمام هدم الحي بالكامل. ومن أصعب الروايات كانت روايات الفلاحين الذين سُلبت منهم أراضيهم ومن ثمّ تم إرجاعهم إليها للعمل فيها كعمال لدى المستوطن اليهودي الجديد الذي استولى على أرضهم.. * وهكذا تبدّل الحال وانقلبت الأوضاع بأهالي يافا العرب من أصحاب أهم مركز اقتصادي بفلسطين، ليعيشوا كالأيتام على موائد اللئام. * قام الصهاينة بتوزيع أملاك وأراضي وبيوت اللاجئين الفلسطينيين على المستجلبين اليهود، وبعد أن انتهوا من هذه العملية بيافا، ولم تعد المباني تتسع لأعداد اليهود المتزايدة، أصبحت الشركات الحكومية الصهيونية تقسّم كل بيت يسكنه عرب بيافا لعدة شقق سكنية لتستوعب أكبر عدد ممكن من المهاجرين. * بهذه الطريقة أجبرت الدولة سكان حي العجمي العرب، على العيش المشترك في نفس البيت مع عائلات المهاجرين اليهود من بلغاريا والمغرب ودول أخرى. * هكذا، تحولت يافا عروس فلسطين إلى أحد أبرز أحياء الفقر والجريمة في تل أبيب. * ولكن التاريخ والديمغرافيا من جديد يدليان بشهادتيهما على الواقع ..فاللاجئون من يافا والمرابطون فيها هم قدرها وهم أهلها..وإن كان الصامدون فيها هم حملة الأمانة على الحلم فإن اللاجئين لا يغمض لهم جفن إلا على أمل العودة.. * كانت معاناة الجيل الأول الذي عاصر النكبة وما بعدها شديدة جدا. كانت أقصى تطلعات ذلك الجيل هي البقاء، أما الجيل الثاني والذي ولد في الخمسينيات والستينيات، فقد وُلد في واقع شديد الاختلاف عمّا ولد فيه جيل الآباء، فقد بدأ هذا الجيل بإعادة بناء نفسه من جديد من خلال الانخراط في سوق العمل في مجالات لم يرغبها اليهود، إضافة إلى أن العديد من الشباب انخرطوا في مجال العمل السياسي المتاح. * استعادة الهوية والعمل السياسي * وكانت سنوات السبعينيات من القرن العشرين سنوات حراك سياسي واجتماعي كبير نسبيا متأثرة بما يجري في المنطقة وبالاحتكاك بفلسطينيي القطاع والضفة، والنتيجة كانت إقامة الرابطة لرعاية شؤون العرب في يافا عام 1979، تعمل على الحفاظ على هوية البلد العربية الفلسطينية، كما وتكافح التمييز العنصري المستمر ضد عرب يافا. * مع ازدياد عدد السكان العرب بمدينة يافا، وهجرة آلاف العرب من الجليل والمثلث إليها، اختلف وبشكل كبير واقع هذه المدينة من الناحية الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية، كما ترعرع جيل جديد هو الثاني بعد النكبة، وكان حظّه من التعليم الأكاديمي أفضل بكثير من الجيل الذي سبقه. * ازدياد عدد السكان وتحسن وضعهم الاقتصادي أعاد آلاف اليافيين إلى الانتشار مجددا في العديد من أحياء المدينة خارج حي العجمي، ومنذ الثمانينيات بدأت يافا تشهد تقدما ملحوظا بجميع مجالات الحياة، وبدأ ذلك يظهر بوضوح مع استعادة أبناء المدينة العديد من المحلات التجارية، وترميم المساجد والكنائس والمباني العامة، بالإضافة إلى ارتفاع نسبة خريجي الجامعات والمعاهد العليا سنويا..ولقد دخل أهل المدينة معارك كبيرة للحفاظ على مساجدهم وأماكنهم المقدسة، ولقد اشتهرت معركة مسجد حسن باشا في وسط المدينة وكسب اليافيون المعركة. * وقد توّج هذه التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، موقف أهل يافا المشرف مع بداية الانتفاضة الثانية عام 2000 حين نزل المئات منهم للشوارع، ونظموا الاعتصامات والمظاهرات ضد ما يجري لأبناء شعبهم في الأراضي المحتلة منذ عام1967، ليلتحم من جديد أبناء الشعب والجسد الواحد الذي مزقته الحركة الصهيونية إلى أشلاء متناثرة. . وهكذا يعود دفق الحياة في الجسد الفلسطيني بعد أن ظن الصهاينة أنه تم تقطيعه تقطيعا ليس له من بعد التئام. * يافا بين الواقع والحلم * لن يستطيع الفلسطينيون إرجاع عجلة الزمان إلى الوراء، هذا صحيح بمعنى أنهم لن ينخدعوا بالأحلام ولن تأخذهم الأوهام فالمعركة اليوم شرسة وتحتاج وسائل عديدة، لكنهم يستطيعون بناء مستقبل أفضل لمدينة يافا ولليافيين في كل أنحاء العالم، والذين يُقدّر عددهم اليوم بما يقارب 800 ألف نسمة أي مايقارب من عشر شعب فلسطين.. المعادلة باختصار تقول إن هؤلاء الفلسطينيين اللاجئين المطرودين من يافا لابد أن يعودوا لمدينتهم عروس فلسطين وينتظرهم هناك ثلاثون ألفا من المرابطين في المدينة..وهكذا يصحح التاريخ مساره وتنتصر الديمغرافيا على العمليات الجراحية الفاشلة..لتصحو يافا على رذاذ موج حبيبها المتوسط من غفوة كالكابوس تتمطى بذراعيها وتنتصب عروسا لفلسطين وللمتوسط من جديد. * * كلمة أخيرة: لماذا أكتب عن يافا؟ أو لماذا لا نكتب عن يافا؟؟لأننا أصبحنا منشغلين عن فلسطين..زحزحونا عن حلمنا ووطننا حتى أصبحنا لا نتحدث إلا عن حصار ومستوطنات وترحيل ..أما مدننا وبيوتنا ومقدساتنا فأنسونا الحديث عنها..ولكن من ينسى؟!! ولينسى من يستطيع أن ينسى..والنسيان خيانة! * شاعر العراق الكبير محمد مهدي ألجواهري يقول في يافا * * أقَّلتني من الزوراءِ رِيحٌ * إلى "يافا" وحلَّقَ بي عُقاب * فيا لَكَ طائراً مَرِحاً عليه * طيورُ الجوِّ من حَنَقٍ غِضاب * كأنَّ الشوقَ يَدفَعُهُ فيذكي * جوانِحَهِ من النجم اقتراب * ركبِناهُ لِيُبلِغَنا سحاباً * فجاوزَه، لِيبلُغَنا السّحاب * أرانا كيف يَهفو النجمُ حُبَّاً * وكيفَ يُغازِلُ الشمسَ الَّضَباب * وكيفَ الجوُّ يُرقِصُهُ سَناها * إذا خَطرتْ ويُسكِره اللُعاب