هكذا كلمت نصك وهكذا كلمني .. لا تؤاخذ تقصيري أو خطئي ولكني تعاطيت معه بعفوية وصدق بين الرعب والرغبة .. بالتجربة والممارسة تبين لي أن قراءتي مثلا لكاتب لا أعرفه ولم يحدث أن تواصلت معه عن قرب ليست كمثل قراءتي لكاتب عرفته وكلمته وتواصلت معه بشكل او بآخر..أعرف ان القراءة النزيهة والأمينة لأي نص هي تلك التي تلتزم الحياد ولا تنحاز لمؤثرات نفسية ولا علاقاتية ولا تراعي شيئا غير المصلحة العليا للنص وفقط .. ولكن معرفتي المسبقة لصاحب رواية ما مثلا تزيدني فوق كل ذلك صرامة حد محاسبته ومساءلته بناء على تفاصيل وأشياء تستوقفني في نصه .. المعرفة السابقة للكاتب تفتق وعيك على أشياء ما كنت لتشعر بها أو تتفطن لها لو قرأت له قبل ذلك .. قبل أن أقرأ'' مذنبون دمهم في يدي '' آخر أعمال الروائي الحبيب السايح قرأت له ''تلك المحبة'' أحببت رقة عنوانها قبل أن اقرأها .. ومرت قراءتي لها بسلام .. تركني النص بخير وتركته بخير ..كنت لا أعرف كاتبها سوى ما سمعته أو قرأته عنه أو له مثل كتاب كثيرين .. لم أستعمل وقتها لقراءتي الرواية السالفة الذكر أكثر من عينين وعقل وجوارح بريئة قانعة بما يقترحه عليها النص .. ولم يتعرض ذاك النص لحواجز امنية ولا لحملات تفتيشية .. عاملته وعاملني بمنتهى التسامح والكرم والثقة .. ونفذ من قبضة وعيي بلا أي أمارة تاويلية أو ظنونية أو أي علامة تنم مثلا عن خلفية ما .. لا لشيء إلا لأن صاحبه غير موجود بملء حضوره الفعلي في مخيالي .. أما الأن وهو موجود في بالي بملء كيانه وكلامه وصوته وحياته وحركته فالأمر تغير .. وقراءتي لهذه الرواية ما عادت تلك القراءة لكتاباته السابقة ..أراه الآن معجونا في كلمات نصه .. كل فقرة كل سطر كل كلمة أحيلها إلى ذاك الشخص الذي عرفته أخيرا .. وبخلفية غير بريئة وجدتني أقرأ ''مذنبون دمهم في يدي'' وأول ما شدني في النص هذا العنوان الذي لفحني لأول وهلة برائحة دم وثار وجريمة .. وفعلا وجدت الرواية عامرة بالجثث والشرطة والاغتيالات وكل الأحداث الدموية المأساوية التي عاشتها الجزائر في العشرية الفائتة .. لو كان وقتها أمامي لسألته رأسا : ما الذي عاد بك إلى تلك الأحزان والمآسي يا أخي ؟ لماذا أرجعتنا إلى أجواء الفجيعة والموت .. فنحن بالكاد نسيناها.. ونسيتنا .. وها أنت تفتح هولها ونارها من جديد .. على خوف وعلى نوع من العتب والمضض تسلحت بشيء من الجرأة واقتحمت النص .. ومن أول فقرة وجدتني غاطسة في مشاهد نابضة مستوحاة من صلب الواقع ومن وحي تلك المرحلة العصيبة التي عاشها الجزائريون .. طبعا ليس في نية السايح تذكير القارئ بما كان وجرى .. أو إخباره بأشياء عاشها بملء وجوده وخوفه ورعبه .. نص السايح له مرامي أخرى .. له مهمة أخرى .. غير ما قد يتبادر للذهن من أول وهلة .. رغم الواقعية الطاغية على أحداث وشخوص الرواية إلا أنها تحيلك إلى رمزية مدهشة كاشفة عن فيض من سحر المعاني .. ومع التقدم في النص يراودك شيء ما.. يخامرك تشبيه ما .. وفقرة فقرة .. سطر سطر .. كلمة كلمة .. يتوضح لك الأمر وتنبض فيما بين الأسطر والكلمات حقيقة العلاقة بين فلة وأحمد ..فلة عشيقة أحمد الفاتنة وأنت تتابع تفاصيل حبهما المحموم تجد نفسك وبلا وعي منك تستحضر ''نجمة'' كاتب ياسين وتقارن تلك العلاقة الملتهبة الغامضة التي كانت بين نجمة وبطل الرواية بعلاقة فلة واحمد ..كلاهما هام بامرأة اعتصر فيها حبه للجزائر .. نص ''مذنبون'' ربما بحكم أجواء الموضوع وبحكم مزاجية الكاتب جاء غارقا في حالات متشابكة متداخلة.. لكنه نص عارف لما يريد الوصول إليه .. لما يحمله ويود زرعه في وعي القارئ .. وقد نجح الحبيب السايح في عمله هذا ليس في إعادة الحياة إلى وقائع طواها الزمن وجعل القارئ يحياها كما لم يحيها من قبل .. يراها يسمعها ويشمها.. ولكن في تشريح والغوص بطريقته في جوهر المأساة التي مرت بها الجزائر .. وكعادة السايح وكعادة لغته نجده في هذا النص على وفائه لتأطير معرفة القارئ أو ربما وضعه ضمن آلية لغوية مقومة ومثرية لسابق رصيده ..وجعل نصوصه ولادة لوعي قرائي متقد قد لا يتكون بسرعة ولكن عقيدته راسخة في أن يجعلها حقيقة أدبية لها أبعاد ابداعية اخرى لدى اجيال قادمة .. وتتيح له التفتح بانفعالاته وأحاسيسه ومواقفه على رؤى مغايرة .. والملاحظ في رواية الحبيب السايح أن إغراقها في الواقعية لم يكن لاعلى حساب استحداث المعاني ولا التيمات ما جعل النص يبدو متحررا منفتحا رغم نبرة الكلاسيكية التي يحب الحبيب أن يلبسها نصوصه .. أو للقدسية الزائدة التي يتعامل بها مع اللغة .. إنه الحبيب السايح هكذا هو .. مغرم أبدي بالكلمات .. سخي معها لأبعد حدود .. يحلو له تدليلها مستعملا تعبيرات تراثية تثبت أصالة علاقته بها .. كان من الممكن أن يثقل ذلك على القارئ لولا براعة السايح الذي نجح في أن يجعلنا نعترف به كمايسترو ينتقل بين نوطات ومفاتيح اللغة العريقة والجديدة بخفة وعبقرية مدهشة ..من قرأ للسايح يعرف أن له طريقته في التواصل والتعامل مع الكلمات .. هو نفسه اعترف في أكثر من مناسبة بوفائه للغة فهو يشتغل عليها بصرامة مرهفة وبوقار شفاف ما أهل نصوصه لان تصنف ضمن الأعمال الراقية صياغة وأسلوبا وإبداعا .. تعمدت عدم الخوض في موضوع الرواية فذلك ليس في صالح القارئ ولا في صالح الرواية .. لكن أقول له أنها رواية عامرة بالرعب والرغبة .. تتداخل فيها القسوة والعنف بالشهوة والحميمية حد التهام المشاهد التهاما .. لا أريد أن أحرق عملا كهذا ببضعة كلمات .. إنه يستحق الإحتفاء به كما يجب ،ويمكنني أن اشهد هنا أن قراءة ''مذنبون ..دمهم في يدي'' الصادرة عن دار الحكمة بغلافها البني الجميل وصفحاتها ال300 وحجمها المعتدل لا يمكن إلا أن تؤكد قامة هذا المبدع الكبير بعزلته وفلسفته وإنسانيته ..