القدس العربي اكتسحت الأقلامُ الجديدةُ الساحةَ الأدبية في الأقطار العربية. فبرزت أسماءٌ جديدة على أغلفة المؤلفات، وصار لها وزن لا يستهان به في معارض الكتب، تشارك فيها بأعداد معتبرة من المؤلفات تُقدّرُ بنحو سبعين كتابا في السنة في العربية السعودية، وهو رقم عظيم في ظل الركود الأدبي والعزوف عن القراءة وهيمنة الشبكة العنكبوتية ومنابر التواصل الاجتماعي. إنها قافلة الجيل الجديد تمضي في رحلة البحث عن الاعتراف والشهرة والتألق، الذي حققه الجيل الأوّل، يغذِّيها الطموح في التفوق والمجد، وينير طريقها الأمل في الوصول إلى أبعد حد. فإلى أيّ حد ستصل عناصر هذا الفريق؟ وهل يدورون ما ينتظرهم في منعطف الطريق؟ وهل ستكلّل مساعيهم بالتوفيق؟ وهل للمبتدئ الأقدر الحق في الحياة أم أنّ البقاء للأقدم؟ في مجتمعات عربية معروفة بعزوفها عن القراءة، بات التأليف حلماً يراود عددا لا يحصى من الشباب. وإن كان بعضهم يمضي بثبات في طريق الكتابة، فإن بعضهم الآخر يتعثّر عند أول عقبات تعترض سبيله. فيتخلّى بعضهم عن حلمه بعد نشر عدة أعمال، وبعضهم الآخر قبل الانتهاء من أول عمل. إنّ من أكبر العراقيل التي تعترض طريق هؤلاء ومن أسباب تعثرهم قسوة ظروف الحياة وصعوبة التوفيق بين الكتابة والصراع اليومي الشاق من أجل الحياة. التاريخ حافل بقصص أدباء عانوا طويلا من الفقر ولم يمنعهم ذلك من النجاح وتسجيل أسمائهم بأحرف من ذهب في سجل التاريخ، مثل الأديب العربي الجاحظ الذي كان لشدة فقره ينام في مكتبة يحرسها ليلا، والكاتب المسرحي الإنكليزي برنارد شو الذي كان يرى الفقر مرادفا للضعف والجهل والمرض، ولشدة معاناته منه فقد تناوله في أعماله مثل مسرحية «الرائد باربرا»، وأيضا الأديب العربي العقاد والكاتب الإنكليزي تشارلز ديكنز وآخرين وما أكثرهم. وإن فشلت صروف الحياة في إسقاط هؤلاء فإنها ما انفكت تعصف بمواهب أدبية مختلفة. وتعترض سبيلَ الكتاب المبتدئين من أول وهلة صعوبةُ النشر. فما أكثر دور النشر التي تسعى لامتصاص جهودهم واستغلال طموحهم لتحقيق أرباح، مستفيدة من عدم جود آليات قانونية أو إجراءات سهلة وواضحة وعادلة لحماية حقوق المؤلف. أما مؤسسات النشر الكبيرة فغالباً ما تتعامل مع فئة قليلة من الأسماء المعروفة في الساحة الأدبية من دون المجازفة مع الأقلام الجديدة. وبينما تُنشرُ كتبٌ في أكبر المؤسسات التي تسمح لها بالمشاركة في المسابقات العالمية، فإنَ بعضها يبقى محروما من ذلك. وحتى إذا اجتاز الكاتب المبتدئ هذه الحواجز ونشر عمله فإنه يصطدم بواقع ثقافي مخيّب للأمل. فكتابه يوزّع الآن في مجتمعات عربية يميزها العزوف عن القراءة وعدم اهتمام وسائل الإعلام بما يكتب، وحرص الهيئات الثقافية على التعامل مع الفئة القديمة المعروفة وعدم اعترافها به وعدم تقديرها لجهوده. وها هو النقد الأدبي هو الآخر يقف حجر عثرة أمام الإبداع الشبابي. يغضُّ طرفه عن الأديب المبتدئ وهو في أمس الحاجة إليه. فهو الذي يكشف له محاسنه وعيوبه ويوجهه للرقي بفنه الأدبي نحو الجودة والفائدة والكمال. وإذا به يكاد يكون مقتصرا على فئة معروفة قليلة تعدّ على أصابع اليد الواحدة في بعض الأقطار كأنه لا وجود لأحد غيرها أو كأنّ حدود الأدب تنتهي عندها. ومن نتائج ذلك اختلال التوازن بين الجيل القديم والجيل الجديد. أعمال مستهلكة من حيث الدراسات تهافتَ عليها النقاد حتى سئمها القراء، وأخرى تبقى في الخفاء لا تجد من يلقي عليها الأضواء. وإذا بالنقد سجين، مقيّد بأغلال الماضي، غير عادل في تعامله مع الأديب العربي، عاجز عن مسايرة التطور الأدبي. وهو ما انفك يثير التنديد والاحتجاج. فها هو الكاتب السعودي عواض العصيمي يشتكي من الواقع النقدي: «الاهتمام النقدي تنقصه الرغبة الجادة في البحث عن الأعمال الإبداعية بمبادرات من النقاد أنفسهم؛ إذ قلما تجد ناقداً يذهب إلى المكتبات، أو يسأل دور النشر عن جديد من لا يعرفه شخصياً من الكتاب، أو ممن لا تربطه به علاقة أدبية روحية». وها هي الأديبة الشابة مي خالد تشتكي من استخفاف النقاد العرب بأعمال المبدعين الشباب: «للأسف نقادنا يقللون من إنجاز مبدعينا الشباب ويتهكمون منهم، هذا إن لم يتجاهلوهم!» يُضاف إلى ذلك ما يلاقيه الكاتب المبتدئ من استخفاف من الأديب القديم وأنصاره. فها هو الشاعر الجزائري منير راجي يفتح النار على الروائيين الجدد في إحدى مقالاته: «الروائيون الجدد لا يتقنون اللغات، ولا يفقهون أبجديات الرواية، ويجهلون الميثولوجيا. تعددت الأسماء الروائية، وتعددت معها العناوين، وتعددت معها أيضا الرداءة الفكرية إلى درجة أن القارئ أصبح بمجرد مشاهدة اسم روائي جديد إلا ونفر منه، وأعتقد أن هذا خير دليل على فشل هذا النوع من الروائيين منذ البداية...». ويذهب منير راجي بعيدا ليشترط إتقان الروائي لغات كثيرة للنجاح في الكتابة: «الروائي الذي لا يتقن أكثر من ثلاث لغات من المستحيل أن يكون روائيا ناجحا». لستُ أدري لماذا خصّ منير راجي الأدباء الجدد بهذا الكلام، فإن كان كذلك، فهو ينطبق على كل الأدباء، وليس المبتدئين فحسب! ثم مَن قال إنّ من شروط النجاح في الرواية إتقان لغات أجنبية كثيرة؟ ألم يخلّف الفرنسي فيكتور هوغو بصماته في سجل التاريخ بلغة واحدة؟ ثم ألم تفز النمساوية إلفريدي يلينيك بجائزة نوبل للأدب عام 2004 بلغة واحدة وهي الألمانية؟ والأمثلة كثيرة. وها هي إحدى الدراسات الغربية نشرتها صحيفة «الديلي ميل» البريطانية تكشف أن الأشخاص الذين يعرفون لغة واحدة أحكامهم أفضل وأعمق من أحكام مزدوجي اللغة! وغير بعيد عن الجزائر، ها هو القاص المغربي إدريس الخوري يتهجم على الجيل الجديد في مقالة أحدثت ضجة كبيرة في المغرب: «إنهم فتية صغار انبهروا باكتشاف الأبجدية الأولى للكتابة غير مصدقين أنفسهم من شدة الفرح... لا أخلاق لهم، هؤلاء الغلمان الذين نبتوا كالفطر ما فتئ ينمو وينتشر ويعبق بروائحه الكريهة رغم لونه الأخضر». لا شك أنّ الشرخ «قديم جديد» في المشهد الأدبي العربي سيستمر لأجيال، يتخندق من خلفه الكاتب القديم حفاظا على منزلته ومكتسباته، مستفيدا من نقدٍ غير عادل يلازمه كالظل، ويحرسه ويخدم مصالحه بالفعل والقول. ويشقّ من حوله الأديبُ المبتدئ طريقَه من أجل الحياة، فيسلك مشوارا شاقا طويلا شبيها بسباق الماراثون، البقاء فيه للأقوى إرادة، والأطول نفسا، والأشدّ تحمّلا، والأكثر ثباتا في وجه العواصف الهوجاء والأمواج العاتية. وحتى إن سارت الرياح بما لا تشتهي سفنُ المبتدئين فإنَّ بعضَهم سيصل حتما إلى بر الأمان وبرج الكبار. فلا شيء في الدنيا مستحيل حتى إن كان عسيرا، ومن كان غير معروف من شأنه أن يصير شهيرا، ومن كان صغيرا يصبح كبيرا. فعندما ننظر إلى الأشجار الباسقة لابد أن نتذكّر أنها كانت في يوم من الأيام شجيرات لا حول لها ولا قوة، بل كانت قبل ذلك مجرد بذور وجذور تحت التراب لا يراها أحد. كَثِيراً ما نسْتَخِفُّ بما هُوَ صَغيرٌ، ونَنْبَهِرُ بما هُوَ كَبِيرٌ، مَعَ أنَّ كُلَّ ما هُوَ كَبِيرٌ، في الوُجُودِ أوَّلُهُ صَغيرٌ.