الحلقة 36 أبو العباس برحايل ومع الأيام تعودنا على إقبال الفرقة الهندسية على المشتى صباحا ومغادرته مساء.. حتى كان يوم زحف فيه أفراد من عسكر الفرقة الهندسية على البيوت واعتدوا على الحرمات بأن تعرض عدد من نساء الحي إلى الاغتصاب..في المساء حين عدنا نحن الصغار بالقطيع وجدنا جدي في حال من الغضب الصامت والذهول وكان لا يستطيع أن يتسرب وجدناه يحوقل ويستعيذ بالله مما حل بالحي من منكرات؛ ويلعن الدهر الذي أبقاه على الحياة حتى يرى المنكر بعينه.. وبالحدس والإشارات عرفنا حتى نحن الصبية بالتقريب مَن هن من نساء الحي اللواتي تعرضن للاغتصاب..إنما تم بعد ذلك لف المسألة وكتمانها وكأن شيئا لم يحدث، ولم يُعرف على وجه اليقين النساء اللواتي تعرضن للأفعال المخزية إلى يوم الناس هذا.. ولن يعرف إلى يوم الدين .. وإذا كانت تلك الحملات تأتينا غالبا من ثكنات نقاوس أو أحيانا من رأس العيون شرقا؛ فإننا في السنوات الأخيرة لم نعد من كثرتها وشدتها نعلم منطلقاتها ..فقد تأتي من بريكة جنوبا وقد تأتي من الحامة غربا .. كنا ذات يوم عطلة نذهب نحن القدادشة في نحو سبعة أو ثمانية أنفار إلى عزلة أحد الكهول لنحصدها له تطوعا ؛(.. وكان هو الوحيد المسموح له بالتسوق إلى نقاوس برخصة من النظام ومن الطرائف أن عجره ذات صباح وهو يغادر على حماره بقصد التسوق صاحت فيه من بعيد: يا السعيد.. لا الضوء، لا الربح!.. تعني أن ليس في البيت بترول ولا ملح!.. فعاد واقتلع البردعة من على ظهر الحمار وهو يقول : فإذا لم يكن هناك لا ضوء ولا ربح فلا ينبغي أن أتسوق..) وما كدنا نصل للحقل؛ فإذا طائرة الكشافة تحوم فوق رؤوسنا؛ وهذه الطائرة تقوم بدور استكشاف الطرق والمسالك للقوات البرية .. وإذا حامت على حي أو مشتى علمنا أن العسكر في الطريق إلى ذلك المكان. وإذا الطائرات الصفراء تزمجر حائمة حولنا بعد أن كن يحمن سربا مثل العقبان على الجهة الغربية منا؛ واحتياطا انسحبنا من الحقل وعدنا قافلين قبل الشروع في الحصاد؛ فإذا تلك الطائرات تهيج في حركاتها وطيرانها وحومانها الجنوني وتنقض على الشعاب القريبة منا وتطلق نيرانها في رشقات متتالية وأرعبتنا بهديرها الراعد الخارق للأسماع بعد أن انخفضت في حومانها وكادت تلمسنا بأجنحتها؛ ولم نجد غير اللجوء إلى أقرب مكان نختفي فيه عن همجية الرشق الناري المدوي.