لاشك أن البشرية قطعت أشواطا كبيرة في تطورها المادي، تمثل ذلك في إنجازات علمية وتكنولوجية عظيمة، لكن هل صاحب هذا التطور تطور أخلاقي ؟ من ناحية الشكل والقوانين والمواثيق وما يتم ترويجه إعلاميا عبر منابر منظمات مختلفة تبدو البشرية أو الحضارة الغربية (قائدة القاطرة) أنها قطعت أيضا أشواطا كبيرة في تطورها الأخلاقي. فمن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان إلى اتفاقية جينيف للحروب وحقوق السود في أمريكا وحقوق المرأة. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه ماذا عن إسقاطات هذه الإعلانات والمواثيق في الواقع؟ الشاهد أن البشرية لم تعش مظالم وسفك دماء واستعبادا مقنعا وغير مقنع بالحجم الذي شهدته في القرن العشرين وتشهده في القرن الحالي، طبعا ساهم التطور التكنولوجي في رفع فاتورة المظالم، بينما التطور الوحيد الذي شهدته البشرية في هذا السياق أنها استطاعت أن تُسوّق الحروب والمظالم بمبررات أخلاقية مختلفة، بينما استنسخ المستبدون في العالم الإسلامي هذه المبررات لإبادة وقتل معارضيهم وشعوبهم أيضا. أما الجماهير فلقد استسلم كل طرف لمصادره الإعلامية التي تنقل له الصورة التي يريد رافضا أية صورة أخرى، وسلّم فؤاده طوعا لا كرها لمثقف أو محلل يبرر له ما تسفكه الدولة أو القائد أو الزعيم من دماء، وهذا يكفي بأن يذهب الجميع ويناموا مرتاحي الضمير غير مبالين بهول المآسي الإنسانية، فلقد تحولت وسائل الإعلام إلى مخدرات أو مسكنات الأخلاقية أدمن عليها الجميع تقريبا شعوريا ولاشعوريا! لقد استطاع منظرو الأخلاق السياسية أن يعطوا ما يكفي من المبررات الأخلاقية بحيث يُلقي الطيار قنبلته ليقتل الآلاف ويعود إلى أسرته ويعانق أبناءه وهو مرتاح الضمير. ففي السابق لم يكن مطلوبا، ولا أحد كان يهتم تقريبا بتقديم مبررات أخلاقية لخوض الحروب وإبادة شعوب وأجناس على بكرة أبيها، مثلما حدث مع الهنود الحمر، بينما اليوم الإضافة التي أبدعت فيها البشرية هي الحرص على التأصيل الأخلاقي لصناعة مآسي إنسانية عبر مبررات مختلفة، من محاربة الإرهاب أو نشر الديمقراطية إلى الممانعة..إلخ، والمؤكد أنه مازال في جعبة الحاوي الكثير.
المفارقة أن الحضارة الغربية، وهذا من أعظم إنجازاتها أيضا، استطاعت أن تتحول إلى مرجعية أخلاقية لكثير ممن يسمون مثقفين ونخب داخل مجتمعاتنا الذين راحوا يجادلون بأن الإسلام دين دماء وانتشر بالسيف.! غير أن كل الشواهد تؤكد أنه إذا كان للحضارة الإسلامية والمسلمين (على أخطائهم) أن يأخذوا درسا أخلاقيا فحتما ليس من الحضارة الغربية ولا من أي حضارة عرفها تاريخ الإنسانية. فالحضارة الغربية وإن كانت حققت نوعا من الرخاء لمواطنيها والمحافظة على حقوقهم وكرامتهم إلا أن هذا الرخاء يأتي جزء كبير منه على حساب تعاسة ومآسي جزء كبير من البشر، هذا إن لم يكن أغلب البشر من مختلف الأعراق والأديان وفي كثير من الأحيان على حساب تعاسة قطاع عريض من مواطنيها أيضا.