رمضان برؤية جديدة (03).. بقلم فاروق أبو سراج الذهب طيفور عندما تسعى إلى تحقيق هدف مُعيّن فأنت تقول ضمنيًا أنك لست مؤهلا بعد لتحقيق هذا الهدف، ولهذا السبب تقوم بوضع خطّة يومية، وبهذه الطريقة ما تقوم به أنت عمليًا هو وضع السعادة وشعور الارتياح جانبًا لحين بلوغك للهدف، فأنت تقول بينك وبين نفسك أنه عندما أستطيع كتابة برنامج كامل أوتصميم موقع مُتكامل سأنام مُرتاحًا قرير العين، وهنا يكمن الخطأ. التفكير فقط في بلوغ الهدف يؤدي في النهاية إلى شعور مُستمر بالإحباط، لذا وللقضاء على هذه الحالة لا يجب التفكير في الهدف، بل يجب التركيز على خطوات تحقيق الهدف، وهي من خلال كتابة أجزاء صغيرة بشكل يومي، ومع اكتساب هذه العادة يوميًا سوف تتمكن من إنجاز 15 هدفا إن أحببت. عندما تُفكّر في العمل الفعلي عوضًا عن الأحلام والنتائج النهائية، فستشعر بسعادة تُمكّنك من الاستمرار لفترة طويلة دون أن تشعر بالضغط النفسي أوالتعب. ونحن نستقبل الآن شهرا كريما واستثنائيا، لا يزورنا إلا مرة كل عام، ذلكم هو شهر رمضان، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « أتاكم رمضان، شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامَه، تُفتَح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتُغَلُّ فيه مرَدة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم». رواه النسائي. وقد شرَّع الله صوم رمضان فأنزل هذه الآيات المباركة من سورة البقرة: (يا أيها الذين آمنوا كُتِب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أياما معدودات، فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعِدة من أيام أُخَر. وعلى الذين يطيقونه فديةُ طعام مسكين، فمن تطوع خيرا فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون. شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه).. الآيات. والصوم، لغة، هو الإمساك، ففي الآية: (إني نذرت للرحمن صوما)، أي إمساكا عن الكلام. وفي الشرع، هو الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به، من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وسمي رمضان لأنه يرمض الذنوب، أي يحرقها بالأعمال الصالحة، من الإرماض، وهو الإحراق. كان الصيام واجبا على أمم أخرى، كأهل الكتاب، ولذلك ما يزال بعضهم يصوم وإن بطريقة مختلفة. وكان صوم القدماء شديدا حتى كان من نام لم يحْلُ له الفطر بعده. والغاية الكبرى من الصوم هي تحقيق التقوى (لعلكم تتقون)، لأنه يربي الإرادة على الامتناع عن شهوات النفس، من أكل وشرب وجماع. وكان الشرع رحيما بالناس، فشرع رخصا كثيرة، فالمرض المؤذي أو الذي يخاف تطوره رخصة للفطر، وكذلك السفر والحمل والرضاع.. ويخطئ بعض الناس الذين يصرون على الصيام، رغم تحذيرات الطبيب المختص، وهم لا يعلمون أن الفقهاء اتفقوا على أن من صام وأضر بنفسه فإنه آثم: (ما يفعل الله بعذابكم). وعن أنس: «سافرنا مع النبي عليه السلام في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم». رواه الشيخان. وقد نزل القرآن في شهر رمضان، تعظيما له، لذلك يستحب للصائم أن يكثر من قراءة القرآن وتدبره وأن يجعل بعض ذلك في صلاة الليل المسماة التراويح. إن هذا الشهر فرصة لإعادة النظر في حياتنا وللتفكر في ماضينا واستخلاص الدروس لمستقبل أفضل، فنحن في عصرنا هذا بالخصوص لا نكاد نتوقف عن الجري واللهاث، فتأخذنا ظروف الحياة، يمنة ويسرة، وتدور بنا أمواج الدنيا، طلوعا ونزولا.. فترى الناس يعْدون في الطرقات والشوارع كأنهم سكارى، وما هم بسكارى، لكن الانشغال الكبير بمشكلات الرزق والعمل ومتطلبات الأهل والبناء..«دوَّخ» الجميع وألزمهم بسير حثيث لا ينقطع وعدْو متصل لا يتوقف. وهنا، يأتي هذا الشهر الكريم ليوقف هذا السباق المحموم وليكسر هذا الروتين القاتل، وليعطي الناس فرصةً لالتقاط الأنفاس، ليس بمعنى الخلود إلى النوم والكسل، لكنْ بتغيير نمط حياتنا وتبديل ساعات يقظتنا ونومنا وأكلنا وشربنا.. وبتنبيهنا إلى أن الدنيا ليست فقط هذه المنافسة «غير الشريفة» على متاعها الزائل.. على مزيد من الاستهلاك ثم الاستهلاك ثم الاستهلاك.. استهلاك أفسد صحة الناس وعلاقاتهم الاجتماعية وأذواقهم وجعلهم أسرى لما يشتهون. وإذا كان المتعلمون والمثقفون والأكاديميون يفتخرون بأن هذا درس في جامعة كذا، وأن هذا تخرج من الجامعة الفلانية، وأن هذا درس في الجامعة الذي درس فيها فلان من المشاهير والعظماء، ففي أي مدرسة تخرجت أنت أيها المؤمن، وإلى أي جامعة انتسبت، وفي أي كلية تدرس الآن. أقول: من عرف حقيقة الصيام، فهو منتسب إلى جامعة التقوى كلية الصيام في رمضان، كلية القيام في ليالي رمضان، كلية تلاوة القرآن والعمل به. تلك الجامعة هي الأقدم عبر العصور، وهي الأعرف عبر التاريخ. جامعة التقوى التي تخرج فيها الأنبياء والمرسلون. جامعة التقوى التي تخرج فيها العلماء والمصلحون؛ فافتخر على الناس بالصدق والإخلاص، يتباهى الله عز وجل بعباده الصائمين بأنهم في مدرسة التقوى يعملون. نعم، إنها المدرسة العظيمة التي فرق الله عز وجل فيها بين الشكل والحقيقة، بين العنوان والمضمون، بين المظهر والجوهر. خل الله الإنسان وهيأ له من أسباب العمل وكسب الرزق، ودله كيف يستر عورته، إذ قال: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً}، هذا بالشكل العام والمظهر، ثم أتبع فقال: {وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف: 26]. اليوم ترى إنساناً أنيقاً في لباسه، معتنٍ بمظهره، فإذا ما حاولت أن تكتشف أخلاقه، فإن كان من أهل التقوى فهنيئاً له، وربما رأيت غير ذلك. في مقياس الصيام عند أولئك الذين لم يعرفوا حقه، الصغار منهم إذا قال أحدهم للآخر: هل أنت صائم؛ فيمد له لسانه، ليظهر إن كان بلون أبيض فهو صائم، أو لسانه أحمر فهو مفطر، عند الصغار، وعند الكبار أصبح معيار بعض الصائمين؛ احذر، انتبه أن تتكلم مع فلان؛ لأنك صائم، فإن تحدثت إليه فغضب، فهو من الصائمين، ما قيمة هذا الصيام إن لم توصلنا إلى حقيقة التقوى. أنت أيها الصائم عرفت الغاية من صيامك {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. والتقوى: فعل الجميل وترك القبيح. فعل المأمور وترك المحظور. أن يجدك الله حيث أمرك، وأن يفقدك حيث نهاك. فماذا أنت فاعل وأنت في مدرسة الصيام (جامعة التقوى)؟ هل حسنت أخلاقك؟ هل تحسنت معاملتك؟ أم إن للصيام تأثيراً سلبياً على بعض الناس ممن إذا سابه أحد، أو خاصمه، أو شتمه؛ لا يحفظ إلا ما ورد في الحديث: "إني صائم"، يرددها قولاً، فهل يعني أنه إذا أفطر، سيرد الصاع صاعين، والمسبة بسبتين، والشتم بأكثر منه، أم إني صائم {إِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} [الفرقان: 63]، يعفو ويصفح {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237]. هل الصيام بتأثير الامتناع عن الطعام والشراب المباح يهيج لدى الإنسان أن يكون ظالماً أو معتدياً؟ لا، {اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8]. هل الصيام نكران للجميل، ونكث للعهد، وبعد عن العقد، وتغيير الحقائق، وتزييف الأمور؟ لا، الصيام {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 76]. عندما نتحدث عن حقيقة الصيام التقوى، اقرأ أيها القارئ التالي لكتاب الله آيات عديدة في سور كثيرة تحدثك من الأتقى؟ {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل: 18]. من الأقرب لله عز وجل والأتقى والأكرم؟ قال: هو الأكثر سخاء وعطاء وبراً وإحساناً {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13]. أكثركم جوداً، ألم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجود بالخير من الريح المرسلة" {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ} أكثركم عطاء وصدقات وأداء للزكاة {عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. المتقون: لا يغشون الناس. المتقون: لا يخونون ولا يخدعون. المتقون: لا يكذبون ولا ينافقون. المتقون: لا يراؤون ولا يرتشون. المتقون: اقرأ صفاتهم في القرآن الكريم. ضع نفسك في هذه الموازين الإيمانية؛ لتقول: الحمد لله على نعمة الصيام، الحمد لله أن أتى رمضان، في وقفة مع الذات في إصلاحها، في وقفة مع النفس، في معاملتها مع الناس والخلق، {فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [الأعراف: 35]. فالتقوى والإصلاح سبب الأمن والأمان والطمأنينة والاستقرار، فما نتائجها؟ اقرأ في سورة واحدة: {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ} كن واحداً منهم، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2-3]، {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق: 4] {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق: 5]. قال سيدنا الحسين أبي عبد الله ابن سيدنا علي رضوان الله تعالى عنه والسلام: اتق الله فإن الله عز وجل قد ضمن لك، -من الضامن؟ رب العالمين-، قد ضمن لك بالتقوى، أن يحول حالك إلى ما هو خير لك بدليل الآيات التي ذكرتها {يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً} {يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} {يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً}. يتبع….