بقلم الدكتور يوسف بلمهدي لفتات القرآن الكريم مائدة من موائد الله سبحانه وتعالى نقف فيها على سرٍّ من أسرار آية منه أو آيات بينات من سورة أو من سور مختلفة، نأخذ منها عبرة ونستزيد منها إيمانًا ويقينًا، حتى نتحقق بقول الله سبحانه وتعالى: "إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)" (سورة لأنفال: 2-4)، فما أجمل أن يزداد الإنسان إيمانًا بهذا الكتاب المبارك الذي هو مفتاح كل خير، فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، لا تنقضي عجائبه ولا تشبع منه العلماء ولا تمله الأتقياء، ولتقفوا معي عند قول الله سبحانه وتعالى: "وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ" (سورة النجم: 39)، وهذا شبيه بقوله سبحانه وتعالى في المعنى المقابل " أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ (38) وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ (39)" (سورة النجم: 38-39)، هذه آية كريمة تدل في ظاهرها على أنه لا ينتفع أحد بعمل غيره، وقد جاءت آيات أخرى تدل على أن بعض الناس ربما انتفع بعمل غيره، مثل قوله سبحانه وتعالى: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ " (سورة الطور: 21)، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ : مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» فكيف إذًا تقول هذه الآية بأن ليس للإنسان إلا ما سعى؟، فرفع درجات الأولاد سواء قلنا إنهم من الكبار أو الصغار هو نفع حاصل لهم، وإنما يحصل لهم بعمل آبائهم لا بعمل أنفسهم، وينبغي أن نقف عند أقوال أهل العلم حتى نأخذ اللفتة والعبرة التي سيقت من أجلها هذه الآية ودلت عليه. أولاً أن الآية إنما دلّت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه، فإذا عمل ولدك صالحًا فأنت لا تملك ذلك العمل الصالح الذي قام به ولدك، ولكن ليس معنى ذلك أنك لم تنتفع به، فالآية دلت على نفي ملك الإنسان لغير سعيه، ولم تدل أبدا على نفي انتفاعه بسعي غيره، لأن النبي عليه الصلاة والسلام عندما قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث…» أي عمله المباشر الذي كان يملكه ويكسبه هو في الدنيا، وعمله غير المباشر الذي فعله ولده، وهو جزء منه، وبالتالي سينتفع به كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالآية إذًا قالت: وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ" (سورة النجم: 39)، واللام هنا لام الملك، أي لا يملك الإنسان إلا سعيه ولكن أن ينتفع بسعي الآخرين فنعم، وبين الأمرين فرق ظاهر لكل عاقل، ولكل متعلم يفهم اللغة العربية، لأن سعيّ الغير ملك لساعيه وهو بديهي، إن شاء بذله لغيره فانتفع به ذلك الغير، وإن شاء أبقاه لنفسه، مثلما أن تحصل في حياتك على مال وهو من كسبك، ثم تريد أن تنفع به غيرك فتتصدق به، فإنّك حققت النفع لنفسك وحققت النفع للآخرين، ولذلك أجمع العلماء على أن الميت ينتفع بالصلاة عليه والدعاء له والحج عنه والتصدق ونحو ذلك، مما ثبت الانتفاع بعمل الغير فيه، وهذا واضح بيّن كما يقول أهل العلم، فالمقصود إذًا "وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ" ليس نفيا لانتفاع من عمل الغير الصالح لكن من انتفاء، أو من نفي ملك، وأن يكسب الإنسان، وأن يمتلك، وأن يحوز، وأن يجعل في ملكيته عمل الآخرين، وبالتالي ارتفع هذا اللبس واتضحت هذه اللفتة القرآنية المباركة. أمّا الأمر الثاني الذي قاله علماؤنا، فإن إيمان الذرية في الحقيقة هو السبب الأكبر في رفع درجاتهم، إذ لو كانوا كفارًا لما حصل لهم ذلك، فإيمان العبد وطاعته سعي منه في انتفاعه بعمل غيره من المسلمين، كما وقع مثلا في صلاة الجماعة، فإن صلاة بعضهم مع بعض يتضاعف بها الأجر زيادة على صلاته منفردا، فإذا صليت منفردا نلت درجة واحدة، أما إذا صليت مع الآخرين أخذت سبعًا وعشرين درجة كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم بأن صلاة الجماعة تفضل صلاة الفرد بهذه الدرجات المضاعفة للأجر، فما الذي فعله هذا الذي صلى منفردًا ثم ذهب لكي يصطف مع جماعة فيسعى معهم في كسب ذلك الأجر المضاعف؟ إنما انتفع بوجودهم وبسعي غيرهم، وبالتالي ارتفعت درجته، وارتفع عمله، وزكى عند الله سبحانه وتعالى، فالمضاعفة انتفاع بعمل الغير سعى فيه المصلي بإيمانه وصلاته هو، ولكن عندما أداها في جماعة ارتفع وجه الخير عنده، وازداد فضله، وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى:"وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ" (سورة الطور: 21) فكأن هذا الأب أو هذه الأم التي كانت لهما ذرية صالحة بعدهما، إذا عملوا ذلك العمل، فبإضافته إليهم ازداد إيمانه وارتفعت درجته فتحقق ما قاله الحق سبحانه وتعالى. اللفتة الثالثة والأخيرة أن السعي الذي حصل به رفع درجات الأولاد ليس للأولاد كما هو نصّ القرآن في قوله: "وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى" ولكنه في الحقيقة من سعي الآباء، فهو سعي للآباء أقرّ الله عيونهم بسببه، إذ لولا الآباء ما كان الأولاد، وإن الله رفع إليهم أولادهم ليتمتعوا بهم في الجنة برؤيتهم، حتى لا تنقص رغباتهم، وحتى لا يكدر صفو عيشهم في الجنة، فالآية إذًا تصدق إحداها الأخرى، ولا تنافي بينهما على الإطلاق، فالمقصود بالرفع إكرام الآباء للأولاد، فانتفاع الأولاد تبع لآبائهم، فهو بالنسبة إليهم تفضل من الله تعالى عليهم بما ليس لهم، وإنّما بإضافتهم إلى الآباء الذين كانوا سببًا في وجودهم نالوا ذلك الأجر، وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى: "وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَىٰ" فإن سعيهم في الحقيقة ليس لهم ولكن هو سعي من آبائهم أخذوا بذلك درجاتهم وهو معنى قوله تعالى: " وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ " فهي نسبة بين طرفين، والله تعالى يجمعنا على خير وبركة وصلاح في الجنة إن شاء الله، مع سيد الخلق أجمعين.