تبنى المشاريع الفكرية والسياسية وردود الأفعال من الأحداث التي تصبغ حركية مجتمع ما على جملة من المعطيات الماقبلية والموازية للحدث، فضلا عن محاولة استشرافية لما يمكن أن يكون عليه الوضع بناء على جملة احتمالات واقعية طرفاه، المحبذ وغير المحبذ، استبعادا لعنصر المفاجأة، واستعدادا لتعامل مدروس مع كل ما يمكن أن يكون. والذي لا يدركه كثير ممن يتأثرون ويؤثرون أو يصنعون أو تصنع بهم الأحداث التي تدخل في توجيه حركية المجتمع هو تلك الانعكاسات السلبية والخطيرة للتجاوز غير المبرر لها، أو قراءتها من منظار واحد يعكس البعد الواحد والوحيد، انتقاما من الآخر أو إمعانا في مخالفته من قبل هؤلاء، تنبئ عن قصر ناظر ناجم عن عدم مراعاة سياقات اللحظة، وملابسات الحدث، أيا كانت سياسية أم ثقافية أم اقتصادية، وبالتالي تفويت فرص ذهبية لحفظ الذات وتقويتها، وتسجيل الموقف في صفحات التاريخ المكتوب بحركية المجتمع ذاته، هذا من جهة. كما ينبئ من جهة أخرى عن عجز في التفكير والتأطير على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي والتنظيمي، وبالتالي عدم مواكبة تسارع تلك الحركية المجتمعية، والبقاء رهن الأسر الماضوي في لحظة إحداثياتها تصلح للعبرة والاستئناس ولا تصلح للتأسيس البتة. ولا يبعد عن هذا تفسير التعامل والتفاعل مع الإحداثيات الراهنة لحركية المجتمع بالقفز على الواقع سواء بالرجوع إلى الماضي السحيق في الانطلاقة والمصب النهائي، أو استعجال المستقبل في خرق واضح لمنظومة تأسيس الحركية على علاقة الزمن بالمكان بالعقل البشري (الموارد البشرية)، وبدون استحضار تركيبة هذه العلاقة لا يمكن فهم المجتمع تاريخا وحاضرا وما يراد منه وله مستقبلا. وفي سياق ذي صلة لتفسير هذه الظاهرة، يحتل العامل الشخصي دورا مؤثرا في صناعة القرارات، ودرجة التفاعل مع ما أسميته سابقا بالإحداثيات الراهنة لمسار حركية المجتمع في منحى تطور المجتمعات الإنسانية، إذ يحول الخوف من تحليل الآخر وقراراته التي تبدو أكثر واقعية وأوسع قبولا في المجتمع دون اتخاذ القرار الموضوعي، وبالتالي تغليب منطق ''خالف تعرف''، أو ''خير وسيلة للدفاع عن العجز هو الهجوم''، والذي طينته من هذا القبيل لا يصلح لقيادة أسرة أو جمعية لتربية النحل، فما بالك بمقاطعة أو دولة بحجم الجزائر. ويمكن في هذه العجالة تبيين جملة من عواقب القفز على الواقع، وسوء استثمار اللحظة الراهنة من حركية المجتمع، والتي يأتي على رأسها تفويت الفرصة على النفس (ماديا كان أم معنويا) وعلى المجتمع تقديم البديل المنافس أو حتى المدعم في إطار نفس السياقات الموضوعية، وبالتالي المساهمة في تسجيل نقاط إضافية لصالح الخصم المنافس. ثانيها تغليط جزء من الرأي العام، ومعروف مدى خطورة تحمل المسؤولية الجماعية في نظر التاريخ والحضارة، وبالتالي استفراغ جزء من الجهد في باب ليس بابه، فضلا عن هضم حق من حقوق الرأي الآخر داخل أتباع نفي الفكرة أو مشروع المجتمع كما يسميه البعض. ثالثها، وهي الأخطر تتمثل في توريث الأجيال المقبلة مشاكل لعصرها وزمانها هي في غنى عنها، بعد أن فوت هؤلاء على أنفسهم حسن التعامل معها في إطار سياقاتها، وما ينجر عن ذلك من تضييع للجهد والوقت، كيف لا ونحن نرى بعض المشاريع لازالت في 2009 تبحث عن حلول لمشاكل ثمانينيات القرن الماضي، في حين كان يمكن توجيه الطاقات والجهد لمشاكل الحاضر، لأن جزائر اليوم غير جزائر الأمس، ومشاكل اليوم غير مشاكل الأمس، وإن كان الاستئناس بالماضي لأجل العبرة والدرس مطلوب، لكن دون أن يعني ذلك تعطيل الطاقات أو إفراغها في غير بابها، والسير إلى الأمام ظاهرا وإلى الخلف حقيقة. والغريب في الأمر أن الكثير من دعاة تأجيل التفاعل مع إحداثيات الراهن في منحى حركية المجتمع، يرافعون لصالح عدم تأجيل عمل اليوم إلى الغد، بينما هم بوعي منهم أو دونه يسهمون في تأجيل التفاعل مع هذه الإحداثيات من عصرنا إلى زمن آخر، يجعل من الأجيال المقبلة تلعن هذا التخاذل وسوء التدبير، الذي سيرغمها حتما على النظر إلى الخلف مصدومين من حجم ما ورثوه رغما عنهم، في حين كان حريا بهم تأجيل التأجيل وتجسيد مفهوم الواقعية السياسية بحذافيرها، انطلاقا من كون القافلة لا يمكنها التوقف، وتلك هي السيرورة التاريخية تبدأ موقفا وتفاعلا، وتنتهي درسا وعبرة لمن يعتبر، ولا مجال للخلط بين الأمرين وإلا وجد عمى الألوان طريقه عبر هؤلاء.