بقلم الدكتور: يوسف بلمهدي الحديث عن رحمة الله سبحانه وتعالى تناولناه في أكثر من مرة ولعل قول الله سبحانه عزّ وجلّ في إثبات كمال هيئة خلقه وكونه خلق الإنسان في أحسن تقويم وكونه خلق المخلوقات على أفضل هيئة، أردف البيان الإلهي إلى الناس أنه كامل الرحمة وأن رحمته غير منقوصة قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُل لِّلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (سورة الأنعام: الآية 12) وقد ذكرنا أن الله تعالى أعطى الإنسان من عطائه الكثير وخيره العميم بدون أن يسأله الإنسان ذلك ونحن قد جعلنا الله تعالى مسلمين ومؤمنين قبل أن نسأله الإيمان والإسلام فنحمده ابتداءً وانتهاءً، وقد ذكر الحق سبحانه وتعالى في معرض جحود الإنسان لنعمة الله تعالى وفضله وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (سورة النحل: الآية 18). في هذه اللفتة القرآنية المباركة نقف عند قوله سبحانه: وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ ، إنها نعمة واحدة ولم يقل الحق سبحانه وتعالى وإن تعدوا نعم الله لا تحصوها، لا شك أن النعم كثيرة بأي شيء نبدأ في إحصاء نعم الله سبحانه وتعالى ولكن تأمل معي هذا الإعجاز القرآني المبارك الذي يجعلك تقرّ بحمد الله تعالى وشكره على كل حال كونه قال: وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ نعمة واحدة فإنكم لن تقدروا ذلك ولن تستطيعوا إحصاءها ولا بلوغ شكرها ولا الثناء على معطيها وباذلها سبحانه عزّ وجلّ، إنه ذكر نعمة واحدة. فقف معي عند نعمة البصر وحده، أو نعمة السمع وحده، أو نعمة الأعضاء، أو نعمة الصحة، أو نعمة العلم، أو نعمة العقل، أو نعمة الزوجة، أو نعمة الولد، وهلم جرا، كل نعمة من نعم الله سبحانه عزّ وجلّ لا يمكن أن يقف الإنسان على مدى إحصاء شكرها، وهذا معنى الحديث النبوي الشريف الذي يصف الناس يوم القيامة فيأتون بأعمال كثيرة من صلاة وصيام وزكاة وحج وبرّ وطاعات كثيرة مختلفة بين فرائض ونوافل وإحسان وإسلام وإيمان، فيغتر الإنسان ويظن بأنه يستطيع أن يبلغ الجنة بهذا العمل وإن كان مشروطا في الدخول إلى الجنة، وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُون (سورة التوبة: الآية 105) لأنها شهادة من الله سبحانه عز وجل ]أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ[ (سورة الأعراف: الآية 43)، غير أن رحمة الله تعالى هي التي تكلل هذا العمل بالنجاح وبمثابة التأشيرة التي تجعل هذه الأعمال مقبولة حتى قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة أحدكم بعمله" قالوا: "ولا أنت يا رسول الله" قال: "إلا أن يتغمدني الله برحمته"، فمن ذلك أن الله تعالى يأتي بنعمة واحدة من نعم الإنسان المنعم بها عليه فيضعها في ميزان أعماله يوم القيامة، فتطير تلك الأعمال كلها أمام نعمة واحدة كنعمة البصر، أو نعمة السمع، فما أجلّ ما أعطانا الله سبحانه وتعالى ولذلك قال الحق: وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ نعمة واحدة لن تقدروا على إحصائها وإعطاء الله تعالى حقه في الشكر، ولم يقل وإن تعدوا نعم الله، لأنه لو قال ذلك لتوقف العداد وانتهى الإنسان دون أن يصل إلى بلوغ غايته ورحم الله الشاعر الذي كان يقول: لك الحمد مولانا على كل نعمة ومن جملة النعماء قولي لك الحمد فحمدك يحتاج إلى حمد، وشكرك يحتاج إلى شكر، وثناؤك يحتاج إلى ثناء، وهكذا يتسلسل الحمد والشكر والثناء، فلن تقدر على إحصاء نعم الله سبحانه وتعالى، فلك الحمد يا رب على ما أوليت به من نعم. اللفتة الأخرى التي أحب أن أقف عندها قول الله سبحانه عزّ وجلّ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ (سورة الأنعام: الآية 54) ما المقصود هنا بهذه الرحمة في هذه الآية الكريمة، قال أهل العلم المقصود بذلك أن الله تعالى يمهل عباده العصاة ولا يعذبهم استئصالا ولا يأخذ هؤلاء الظالمين لقوله سبحانه عز وجل وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ (سورة فاطر: الآية 45) إن هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في ملكوته ]قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ[ قال الحق سبحانه: ]كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ[ (سورة الأنعام: الآية 54)، هؤلاء الذين يفسدون في السماء ويفسدون في الأرض ]ظَهَرَ الفَسَادُ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ[ (سورة الروم الآية 41)، رغم ذلك فإن الله تعالى يرحمهم ولا يستأصل شأفتهم ولا يزيل ملكهم ولا يهدد كيانهم بل قال الحق سبحانه ]كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ[ ولا يعاملكم معاملة العبيد ولكن يعاملكم بأنه هو الله الرحمن الرحيم. الأمر الثاني أن الله تعالى ذكر بهذه الرحمة رحمته للتائبين المستغفرين وبيّن سعة رحمته، ولذلك قيل لما فرغ الحق سبحانه وتعالى من الخلق كتب كتابا بنفسه بيده وجعله تحت عرشه عنوانا "إن رحمتي سبقت غضبي" ولذلك ناسب أن تذكر هنا الرحمة مع خلق السماوات والأرض، قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُل لِّلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ (سورة الأنعام: الآية 12)، فبعد فراغه من خلق الخلق كتب مباشرة "إن رحمتي سبقت غضبي" أو "إن رحمتي غلبت غضبي". لفتة أخرى ما معنى قول الله تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ (سورة الأنعام: الآية 12) قيل بأن هذا نوع من الرحمة أي لولا أن الله سبحانه عزّ وجلّ جعل الناس يخافون من لقائه غدا، ويخافون من لقاء المولى سبحانه وتعالى لأكل الناس بعضهم بعضا، ولقتل القوي الضعيف ولاعتدى الغني على الفقير، ولحدث فساد في الأرض، فخوفهم من لقاء الله تعالى رحمة من الله سبحانه عزّ وجلّ، وخوفهم من القيامة والحساب جعلهم يتركون الهرج والمرج، ويتركون كثرة الفساد، لأن ذلك بمثابة المكابح والموانع من ركوب الخطأ والمفاسد فقول الله تعالى: كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ نوع من رحمة الله سبحانه عزّ وجلّ وما ألطفه، وإلا لما كان للتقوى معنى وهو أمر داخلي باطني يجعل الناس يكفون عن معصية الله سبحانه عزّ وجلّ، وهذا ما قالته مريم العذراء عندما بدا لها رجل غريب لا تعرفه وهو سيدنا جبريل جاء في صورة بشر سوي قالت له: ]إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَ نِ مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا[ (سورة مريم: الآية 18)، أي تذكره بالتقوى وتذكره بوقوفه بين يدي الله حتى لا يمسها بسوء ولكنه جاءها بالبشرى في هذه اللفتة المباركة. واللفتة الأخيرة قول الله تعالى: قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُل لِّلَّهِ أنظر كيف ذكر الله تعالى الضمير هنا بضمير الغيبة أي ضمير الغائب، ولكن قال بعدها ]لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ[ بضمير المخاطب، الجواب إنه زيادة في التهديد من الله سبحانه عزّ وجلّ أي هذا الإله الذي عرفتم وبينتم وأقررتم بأن الله هو الإله في السماء وهو الإله في الأرض لا يخفى عليه تدبير الكون، فإنه يخاطبكم يا من أقررتم بذلك فاستمعوا إليه وهو ينذركم بالرجوع إليه، ولهذا المعنى انتقل الخطاب من الغيبة إلى صيغة المخاطب، ولعل المعنى القريب أنكم لو رأيتم بعين الحق هذه المخلوقات لرأيتم الخالق حاضرا، وهذا معنى قول الشاعر: وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد