سنتناول في هذه اللفتة صفة من صفات الله سبحانه وتعالى التي كتبها على نفسه كما جاء في سورة الأنعام: "كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ" (سورة الأنعام: الآية 12)، بل اشتق من ذلك اسمان من أسماء الله سبحانه عزّ وجلّ وهما: " الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وقد جاءت هذه الصفات وهذه الأسماء فيما يسمى بالبسملة أي في قولنا "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" وهي آية من سورة النمل باتفاق أهل العلم، وإن اختلفوا هل هي آية من كل سورة يبتدئ بها في القرآن الكريم، وذلك في قوله سبحانه وتعالى: "إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" (سورة النمل: الآية 30). أما سور القرآن كلها فقد نزلت متبوعة أو مسبوقة بالبسملة في 113 سورة، بينما جاءت سورة التوبة خالية من هذه الآية المصدرة لهذه السورة، وذلك في لفتة يذكرها علماؤنا وهي أن سورة التوبة جاءت بلفظ "بَرَاءَةٌ" أي بلفظ فيه قساوة لهؤلاء الكافرين، الذين جحدوا نعم الله تعالى وحادوا رسوله، وحاربوا الله سبحانه عزّ وجلّ، فإنه ليس من المناسب أن نقول لهم: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَرَاءَةٌ» لما في ذلك من الموقفين المتناقضين اللذين لا يقرّهما عقل، ولذلك سكت الحق سبحانه وتعالى عن هذه الآية ولم ينزلها مصدرة في هذه السورة المباركة، تمامًا مثلما يهم الإنسان بأن يذبح شيئا مما أحله الله تبارك وتعالى من الدواجن أو من الأنعام فإنه يقول: «بسم الله، الله أكبر» ولا يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم» لما في ذلك كما قلت من إيهام التناقض والتعارض بين هذين الحالين، ثم إن كلمة «بسم الله الرحمن الرحيم» كانت ولا تزال تصدر كل الكتب وكل الأمور التي لها شأن لقوله صلى الله عليه وسلم: «كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بسم الله، أي ببسم الله الرحمن الرحيم، فهو أجذم أبتر أقطع قليل البركة». ثم في لفتة أخرى كان سلفنا يكتبون في كتبهم "بسمك اللّهم" حتى العرب قديمًا -ومعروف حادثة الصحيفة في مكةالمكرمة بين المشركين وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم- يكتبون "بسمك اللهم" حتى نزل قول الله تعالى "بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا" (سورة هود: الآية 41)، فكتبت وتخلى الناس عن الأولى، ثم نزل قول الله تعالى: "قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ" (سورة الإسراء: الآية 110) ، فكتبوا ذلك "بسمك اللّهم" أو "بسم الله الرحمن" حتى نزل في سورة النمل "وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" (سورة النمل: الآية 30)، فكتبت مثل التاج ووضعت على رأس كل كتاب، وعلى كل أمر ذي بال. ومن الفوائد التي ينبغي أن نستجليها فيما يذكره أهل العلم بأن الله تعالى قال: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" فبدأ بكلمة "الرَّحْمَنِ" وثنى ب "الرَّحِيمِ" لأسباب وفوائد كثيرة، أما الفائدة الأولى، فقولهم: "الرَّحْمَنِ" أي الرحمن في الدنيا، لأن هذه الرحمة تنال المسلم كما تنال الكافر، والله تبارك وتعالى يعطي المسلم ويعطي الكافر من مائه وهوائه ونعمه، ولا نجعل ذلك في أهل الإيمان قاصرًا، فإن الله تبارك وتعالى يقول: "قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا" (سورة مريم: الآية 75) أي في هذه الدنيا بينما "الرحيم" أو كما جاء في آية أخرى "كُلًّا نُّمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا" (سورة الإسراء: الآية 20)، أما صفة الرحيم فإنها خاصة بالآخرة، كأن الله تعالى جعل اللفظ الأول عامًا لجميع الناس كافرهم ومؤمنهم، أو في الدنيا لجميع الخلق كذلك، بينما جعل رحمة الآخرة وهي صفة أو اسم الرحيم قاصرًا على المؤمنين فقط لقوله سبحانه وتعالى: "وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا" (سورة الأحزاب: الآية 43). ثم هناك لفتة قرآنية أخرى أنظر تقديم لفظ "الرَّحْمَنِ" على "الرَّحِيمِ"، قالوا إن الله سبحانه عزّ وجلّ قدم هذا الاسم على الآخر لأنها دعوة من الله تعالى لكل كافر إلى الإقبال عليه، فإذا أقبلوا عليه وتابوا زادهم من فضله، وكساهم نورا آخر باسم الرحيم، ترقيا لهم من رحمة إلى رحمة، ومن فضل إلى فضل، وهذا شبيه بالحديث القدسي الجليل: «إذا تقرب العبد إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإذا تقرب إليّ ذراعاً تقربت منه باعاً، وإذا أتاني يمشي أتيته هرولة». وهناك لفتات أخرى في هذين الاسمين العظيمين نقف عندهما إن شاء الله، أما اللفتة الأولى فإن هذه الرحمة هي سبب في إجابة الدعاء بل في تحقيق المعجزات وإصلاح الأزواج كما ذكر الحق سبحانه وتعالى في سورة مريم "كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3)" (سورة مريم 1-3)، إن هذه الرحمة هي السبب التي جعلت المولى سبحانه وتعالى يصلح له زوجه ويرزقه ولدا على كبره بعد أن نادى ربه ضارعًا خاشعًا متبتلاً إليه "ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا" فإذا قلت لأحد: «رحمك الله» فكأنما أجيبت دعوته بمثل هذه المعجزة المباركة. والرحمة الإلهية سبب في الحفاظ على الأموال والثروات، بل وحماية الأولاد والأحفاد إكرامًا لأجدادهم الصالحين، قال تعالى في سورة الكهف: "وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ" (سورة الكهف: الآية 83) فهذه الرحمة هي سبب في الحفاظ على هذه الأموال وثروات الأمم وحماية الأجيال حتى يكونوا خير خلف لخير سلف فقال تعالى "وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ". وإن الرحمة الإلهية كذلك هي سبب القوة والبأس، وسبب الصناعة، وسبب التفوق في التقنيات، قال الحق سبحانه عزّ وجلّ في هذه السورة كذلك (الكهف) في قصة ذي القرنين: "فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96) فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)" (سورة الكهف: الآية 95-98) أنظروا "قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي" أي هذا العلم، معرفة خصائص النحاس، وخصائص الحديد، وهذه الصناعة، وإذابة كل منهما، إن هذا من رحمة الله سبحانه عزّ وجلّ، فالرحمة الإلهية وسعتها وأبعادها هي سبب في القوة والبأس والسيطرة على هذه التقنيات والصناعة، فإذا دعونا الله تعالى وقلنا له: «ارحمنا» فإننا ندعوه لكي يمكننا من الأخذ بمثل هذه الأسباب. وأمر آخر الرحمة الإلهية سبب للعصمة من الذنوب، والوقوع في المعاصي واجتراحها، وفعل الآثام ومخالفة الحق سبحانه وتعالى، جاء في سورة يوسف على لسان امرأة العزيز: "قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53)" (سورة يوسف: الآية 51-53) "إِلَّا مَا "، أي إلاّ الذي كان صاحب نفس مرحومة "إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي" فهنا رحمة الله تعالى تدرك عبده وتجعله في حرز من الأماني بعيدًا عن هذه المعاصي والذنوب والخطايا، فإن رحمة الله سبحانه عزّ وجلّ تجعل الإنسان بعيدًا من اقتراف الآثام واجتراح المعاصي وركوب مثل هذه الأسباب التي تقحم الإنسان في النار والعياذ بالله. إن الرحمة الإلهية في سبب آخر نذكره الرحمة الواردة في قوله سبحانه وتعالى: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ" والتي تكرر وتردد ذكرها في القرآن الكريم هي سبب للتمكين، وسبب للعزة والكرامة، وسبب للتعويض عن كل فائت أعقبه صبر ورضا، وتسليم لله سبحانه وتعالى، تمامًا كما حدث لسيدنا يوسف عليه الصلاة والسلام الذي آذاه إخوته وخرجوا به، وكذبوا على أبيهم وألقوه في غيابات الجب، وحاولوا قتله وحدث له حادثة البيع والتسويق في سوق النخاسة والرقيق، كل ذلك كان بعيدا عنه سيدنا يوسف عليه السلام وعلى نبينا أزكى الصلاة وأفضل التسليم، إلا أنها بلايا ورزايا جعلها الله تعالى محنة لمثل هذا النبي الكريم، يقول الحق في شأنه: "وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ" 54 (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)) (سورة يوسف: الآية 54-55)، قال الحق: "وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" (سورة يوسف: الآية 56) فلقد أصبح ملكًا يملك خزائن مصر ويدير شؤونها الاقتصادية برحمة الله سبحانه الواردة في قوله: "نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" فالرحمة الإلهية سبب للتمكين والعزة والكرامة والتعويض عن كل فائت أعقبه صبر ورضا وتسليم، نسأل الله تعالى أن يرحمنا جميعًا وأن يجعلنا في حرزه وأن يجعلنا في عينه وأن يكلأنا بحفظه إنه ولي ذلك.