أذكر جيدا ما كتبه الزميل حسان زهار مخاطبا مؤسسي جريدة الشروق ذات صيف من عام 2001 عندما رفعوا شعار "200 سنة خبرة" في مقال بعنوان "سأحاكمكم جميعا إذا فشلتم" .. كنت حينها صحفيا مبتدئا في جريدة سحرتنا عندما جمعت أقلاما وأسماء هي زبدة ما أنتجته الصحافة المعربة حينها .. سعد بوعقبة، علي فضيل، بشير حمادي، عبد الله قطاف، مصطفى هميسي، سالم زواوي، حبيب راشدين، سليمان جوادي، عشراتي الشيخ، ناصر بن عيسى، باديس قدادرة، محمد لعقاب، ومحمد عباس، عبد العالي رزاقي، عمار نعمي، نصر الدين قاسم، إبراهيم قار علي، حسان زهار .. وغيرهم كثير من كتاب لم يترددوا في الانضمام إلى هذا المشروع الواعد ككتاب ومساهمين أو داعمين بالمال والنفوذ والرأي.. انطلقت السفينة بكثير من الطموح ولكن أيضا بكثير من الحساسيات والحسابات والنوايا السيئة، ربما لأن السفينة انطلقت بأكثر من ربان وربما لأن الجماعة من جيل واحد ومستوى متقارب .. لن أتحدث عن الذي أو الذين خرقوا السفينة لأنني لا أملك الحق في ذلك بوصفي لم أكن سوى صحفيا بسيطا لا ناقة ولا جمل له في خلاف الإخوة الأعداء، ولأن المحكمة قد قالت كلمتها حينها وركبنا جميعا كصحفيين في الجزء الناجي من هذه السفينة محاولين إعادتها إلى عرض البحر والجنوح بها إلى بر الأمان، بل صنعنا منها بعد ذلك عصرها الذهبي ..سفينة بكل ما يقال عنها تعبر بالفعل عن الجزائر حلما جميلا وموجعا في ذات الوقت .. القصة بقدر ما تحمل من المعاناة والمغامرات بقدر أيضا ما تحمل من الطموح والشغف، لكن ما يهمني هنا هو بشير حمادي كيف بدأ وكيف انتهى ؟ .. لعلني محظوظ .. أن الذي وظفني في الشروق هو الأستاذ عبد الله قطاف والذي أعطاني فرصة كاملة حد التخمة هو الأستاذ علي فضيل، لكن الذي علمني أبجديات الصحافة ووضعني على السكة الصحيحة هو بشير حمادي، لم يكن في زادي قبل أن أعرفه سوى مخزون لغوي يكاد ينضب وشعلة انتباه وطموح لم تكن لتعني شيئا في أجواء إعلامية طاردة للمواهب .. لكن بشير حمادي منذ الوهلة الأولى يشعرك أنك صحفي وأنك تستطيع أن تفعل ما يفعله الصحفيون الكبار من أمثال بوعقبة ومحمد عباس وحبيب راشدين، وبقدر الصرامة والاستقامة والوضوح في شخصية بشير لا يمكن أن يسمع الصحفي منه كلمة تحط من معنوياته وتقلل من شأنه أو تثبط عزيمته، بل قد تسمع منه ملاحظة قاسية في جملة لطيفة وعبارة رقيقة تجعلك تستشعر المسؤولية والثقة وتبادر بالقيام إلى واجبك .. لقد اشتغلت مع الكثير من رؤساء التحرير في صحف مختلفة، العالم السياسي والبلاد وبعدها الشروق واشتغلت رئيسا للتحرير لأكثر من تسع سنوات في الشروق، لكنني لم أر في حياتي رئيسا للتحرير يغوص في تفاصيل صحفييه ويقرأ بتمعن كل ما يكتب لديه حتى التهاني والتعازي، مثلما رأيت وعشت مع بشير حمادي. نعم كان بشير حمادي يدخل مكتبه الساعة السابعة صباحا ليعد ما نسميه بالصفحات الميتة يقرأها ويعيد صياغة بعضها ويوجه أصحابها، ثم يستلم صفحات الحدث فيتفاعل ويقترح ويثمن ويوجه كل صحفي في موضوعه ثم يعكف على تصحيح أخطائنا بقلمه الأحمر ليواجهنا بها في اليوم الموالي .. أشهد أن قلمه الأحمر كان لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها في مقالاتنا حتى الفواصل وتركيب الصياغات، لست أدري من أين كان المرحوم يأتي بكل هذا الصبر والحلم والوقت ليقف على أخطاء كل صحفي ويتناقش معه فيها ثم يمر إلى الذي يليه حتى يشطب آخر صفحات الجريدة ليكون آخر من يغلق باب الجريدة مثلما فتحه أول مرة. يشهد الجميع لشخصية بشير أنها فارقة وعادلة ومستقيمة، فارقة لأنه لا يشبه أحدا ممن حوله، يناقشك بمنطق ووضوح تتكسر على جداره كل الحجج الواهية ومحاولات التبرم أو الاحتيال التي قد يحترفها بعض الصحفيين للتهرب من مسؤولياتهم، لا تستطيع أن تكذب بين يديه إذا أردت التملص من واجباتك مثلما لم نكن نجد نحن الصحفيين من يراعي ظروفنا ويتساهل مع خيباتنا أكثر من بشير حمادي ربما لأنه يعرف ظروفنا واحدا واحدا موزعين بين الأحياء الجامعية والفنادق ويحاكي نفسياتنا فيما نكتب من مقالات .. استقامة بشير حمادي لم تكن في شخصيته السوية وعقله النظيف فحسب، بل كانت في وضوح أفكاره إذا كتب أو تحدث، وثباته عليها إذا تغيرت الظروف، وقدرته على توليد الأفكار لدى فريقه واستيعاب ما يمكن أن يصدر منهم من إبداعات ومبادرات والإمساك جيدا بشعرة معاوية بين التحفيز والعقاب المثمرين، والقدرة على تحمل عبء الفريق سواء في تكوينه أو توجيهه أو مرافقة عمله بالخطوة وهي مهمة عجز عنها أغلب رؤساء التحرير الذين أعرفهم، والذين لم يفلحوا في ردم الهوة بينهم وبين صحفييهم بينما كان بشير يشتغل معهم في قاعة واحدة .. يقرأ ما يكتبون ويسمع ما يقولونه .. كان يصححنا بالقلم الأحمر لأنه يحب الوضوح ويكره اللف والدوران، يعجبه الصحفي الملحاح الذي يكثر السؤال ليتعلم ولا يعجبه المنطوي المتكاسل، لست أدري من أين كان يأتي بكل تلك الطاقة التي تجعله يحاور ويتناقش مع كل صحفي في موضوعه ويستقبل ضيوفه بروح مرحة ويلملم أوراق الجريدة ويصححها حتى وهو يقوم بعمل آخر، لقد سماه البعض بالرجل الآلي لأنه لم يكن يتعب بينما أعتقد أنه يستمد طاقته من قدرته على الاستمتاع بكل لحظة في مهنته بالقدر الذي تنعكس عليه طاقة وإشعاعا وعطاء فتراه يزداد نشاطا آخر النهار بينما ننسحب جميعا إلى بيوتنا .. أنا ممتن للمرحوم بشير حمادي على ما علمني ومعتذر لروحه على تقصيري في التواصل معه، ظل ودودا معي حتى عندما غادر الشروق ولازمني حينما أعدت بعث جريدة "الحوار" بالزيارات والنصائح، بل ساعدني في تذليل الخلافات مع بعض الرفاق الذين ربما فرقت بيننا السنون، لكنه رحل دون أن يودعنا جميعا .. رحل ولم يكمل بعد رسالته أو ربما أكملها وما نحن إلا حسنة من حسناته. رحم الله شريف الصحافة. إنا لله وإنا إليه راجعون.