بقلم الدكتور" قادة جليد" أستاذ جامعي وباحث أكاديمي معسكر لقد استطاع الحدث الانتخابي القادم، المتمثل في الانتخابات التشريعية، أن ينتج نوعا من التفاعل والتدافع السياسي بين الأحزاب، مع مشاركة أغلبية أحزاب المعارضة في هذا الاستحقاق، بل هناك حتى من أبدى نيته في دخول الحكومة المرتقبة، على غرار حركة "حمس" مع رهن هذه المشاركة بنتائج الانتخابات وظروف إجرائها ومع بروز أقطاب سياسية جديدة في إطار التنسيق أوالاندماج ، كل ذلك يؤشر على بروز خارطة سياسية جديدة بعد الانتخابات مع وعود السلطة بضمان نزاهتها وشفافيتها، خاصة مع تنصيب الهيئة العليا لمراقبة الانتخابات برئاسة شخصية إسلامية محترمة ومقبولة من قبل الجميع، مع القليل من التحفظ من بعض الأطراف حول الصلاحيات المخولة لهذه الهيئة وقدرتها على تصويب الأخطاء التي تحدث في كل مناسبة انتخابية . و يرى الكثير من المتتبعين والمحليين أن السلطة عازمة هذه المرة على إجراء انتخابات نزيهة و نظيفة و هذا لأنها بحاجة إلى تقوية الجبهة الداخلية و ترتيب البيت الداخلي و بناء جسور من الثقة بينها و بين الأحزاب السياسية، و بعبارة أخرى إبرام عقد اجتماعي و سياسي جديد و هذا جراء الأزمة الاقتصادية و إفرازاتها على الطبقات الاجتماعية، و تزايد المخاوف من انهيار القدرة الشرائية للمواطن و محاصرة موجة الاحتجاجات الشعبية التي كانت السلطة تجد نفسها وحيدة في مواجهتها من دون سند فعلي من الأحزاب أو المجتمع المدني، زيادة على الوضع الإقليمي المتوتر أمنيا و سياسيا لبعض الدول المجاورة و انعكاساته السلبية على الأمن القومي الجزائري. و أمام هذه التحديات الداخلية و الخارجية يجعلنا نؤكد أن الوضع لم يعد يحتمل المزيد من القطيعة و الانفصال بين الدولة و المجتمع السياسي، لذلك كان يجب أن تكون هذه الانتخابات أكثر ديمقراطية و مصداقية، و هذا لإضفاء الشرعية الشعبية على المؤسسات المنتخبة، و من أجل إعطاء السياسة مفهومها الحقيقي باعتبارها: "فن التعامل بالمصالح الكلية للجماعة وصولا إلى هدف السلام و الرخاء العام و رعاية حاجات الناس من أجل تحقيق السعادة للكافة "، ولكن هل الأحزاب السياسية على درجة من الوعي بهذه المرحلة التاريخية المهمة؟، و هل يمكن ممارسة السياسة في غياب مرجعية سياسية و فكر سياسي؟، أو ليست الأحزاب هي التي تزكي قوائم المترشحين؟، أو ليست الأحزاب السياسية هي التي أعطت صورة منفرّة لوظيفة النائب و دوره في المجتمع كسلطة تشريعية و رقابية من خلال ترشيح أصحاب المال أو الشكارة و الانتهازيين والوصوليين و تغييب أصحاب الكفاءات و المناضلين الحقيقيين، لماذا نلوم السلطة و لا نلوم الأحزاب عندما ينعت البرلمان الحالي ببرلمان الحفافات و أصحاب الشكارة؟، و السؤال يطرح بشكل كبير على الأحزاب التقليدية المحسوبة على التيار الوطني، و التي تتنافس على وعائه الانتخابي بحكم الانتشار و الوسائل المادية التي تمتلكها و تغلغلها في أجهزة الإدارة و الإعلام و المجتمع المدني. إن الأحزاب السياسية ملزمة اليوم أكثر من أي وقت مضى بالتحلي بثقافة الدولة و الابتعاد عن النزعة الميكيافيلية التي تعمق الرداءة و تزيد الواقع البائس أكثر بؤسا، و هذا للمساهمة في تحقيق التنمية السياسية باعتبارها " زيادة النظام السياسي في قدراته من حيث تسيير الشؤون العامة و ضبط النزاعات و تلبية المطالب"، و لكن عندما ننزل إلى الواقع و نرى أن هذه الأحزاب تبحث عن أصحاب المال و الشكارة بالمجهر الإلكتروني لتجعلهم على رؤوس القوائم و تقصي و تهمش مناضليها و إطاراتها الذين يعدون بالآلاف لأسباب تبقى مجهولة أولا يعرفها إلا أصحابها، فإن ذلك يبعث على القلق و الشك حتى أن زعماء هذه الأحزاب لبسوا ثياب شيوخ الدين و الزوايا و راحوا يفتون بأن مال هؤلاء مصدره من الحلال و ليس من الحرام، و هي مجرد ديماغوجية و خطاب سياسوي يفتقد إلى الموضوعية و المبررات الأخلاقية، لأن السياسة و ممارستها في نظر هؤلاء أصبحت مرتبطة بالمال، و هذا ما يهددنا كمجتمع و دولة اليوم، و من هنا كانت مسؤولية الأحزاب السياسية كبيرة في هذا الشأن من خلال انتقاء مترشحين أصحاب كفاءات عالية يضطلعون بمهمة التشريع و الرقابة، و يحظون بالرضا الشعبي من أجل تطهير الحياة السياسية وأخلقة العمل السياسي، و إعطاء المؤسسة التشريعية المصداقية الشعبية و استرداد ثقة المواطن من جديد، و هذا لبناء الشرعية التي تحتاجها الدولة اليوم في ممارسة سلطتها على المجتمع حيث يرى ماكس فيبر: " أن النظام الحاكم يكون شرعيا عند الحد الذي يشعر معه مواطنوه أن ذلك النظام صالح و يستحق التأييد والطاعة". ولكن الأحزاب السياسية في الجزائر خاصة التقليدية تحبذ النزعة الميكيافيلية (الغاية تبرر الوسيلة) القائمة على المصلحة والمنفعة الآنية باعتبار أن الفعل السياسي في نظرهم مرتبط بالنتيجة والغنيمة وليس بالمبادئ و الأفكار و التضحية، و أعلنت هذه الأحزاب عن موت أو نهاية المناضل السياسي الذي يحمل مشروع مجتمع و ثقافة سياسية لا لشيء سوى لافتقاره للمال و المركز الاجتماعي تارة بحجة تمويل الحملة الانتخابية، و تارة أخرى بحجة الانضباط الحزبي و نكران الذات، و هذا ما يعمق مأساتنا السياسية في الجزائر و يجعل العمل السياسي مجرد صدفة و عبث من دون معايير و مقاييس موضوعية، بما لا يخدم مصلحة الدولة و المجتمع. إن من واجب الدولة اليوم أن تتدخل و بكل مؤسساتها في محاربة هذا العبث السياسي الذي يرهن مستقبل الجزائر، و أن تحافظ على النخبة الوطنية و هي عادة ما تنتمي إلى الطبقة الوسطى من موظفين و باحثين و أساتذة الجامعة، مع التذكير أن الطبقة الوسطى هي التي حمت الدولة و حافظت على استمراريتها إبان العشرية السوداء، لأن الشرعية التي تبحث عنها السلطة اليوم لا تتحقق على حد تعبير "روبرت ماك إيفر": " إلاَ حينما تكون إدراكات النخبة لنفسها و إدراك الجماهير لها متطابقين، و في اتساق عام مع القيم و المصالح الأساسية للمجتمع و بما يحفظ للمجتمع تماسكه ". أعتقد و من وجهة نظري الخاصة أن السلطة قد أوفت بواجباتها والكرة الآن في مرمى الأحزاب، و إن غدا لناظره لقريب. Email : [email protected]