بقلم: رمضان نايلي / كاتب من الجزائر وصلت إلى مطار كراسنودار الدولي، من موسكو بعد رحلة طويلة وشاقة لم يغمض لي فيها جفن، قادتني من الجزائر إلى روما (إيطاليا) ثم موسكو، فكراسنودار. كان الوقت ظهراً حين وصلت إلى هذه الأخيرة، وبالضبط في السَّاعة الواحدة بتوقيت روسياً، بتاريخ 17 نوفمبر 2016، في المطار تَجد نفسك ملزماً على الصَّمت إن لم تكن تُتقن اللّغة الرّوسيَّة حتى متاعي القليل من اللّغة الفرنسيَّة لم يشفع لي، ولم يُفدني بشيء فالذي تسأله من المُسافرين أو حتى من موظفي المطار عن أي شيء بلُغة أخرى ليست الرّوسيَّة يكتفي برسم اعتذار على ملامح وجهه ويذهب في طريقه، أو يُثرثر لك قليلاً بلغته الرّوسيَّة، بكلمات مُبهمة لا تستطيع حتى استيعابها رغم معرفته المبدئيَّة أنَّك أجنبي ولا تعرف لغته ..بعد عشر دقائق لم أبرح فيها مكاني، وصل صديقي إسماعيل النَّجار، الشَّاب الفلسطينيّ الذي كُنت في انتظاره أخذنا طاكسي واتّجهنا إلى وسط المدينة، كان الطقس بارداً قليلاً بسبب تساقط الثّلوج التي غطّت المدينة، وأعطتها حُلَّة بيضاء وجميلة ..في الطَّريق كان إسماعيل يسأل، وأنا أجيبه بذهن شارد، تائه في هذا العالم الفسيح، أوزع أنظاري إلى كل زاوية من زوايا المدينة التي نَمرُّ بها في طريقنا، شوارع واسعة ومُنظَّمة، طراز معماري خاص ومُتميّز، منازل تتشابه إلى حد بعيد في شكلها الهندسي، سقوفها مُغطَّاة بالآجر الأحمر". هذه المدينة حبتها الطّبيعة بالفريد من الصّفات، مساحات خضراء، حدائق كثيرة تتخذ لنفسها ألوانا جميلة حسب الفصول السّنوية؛ كما أنَّها مدينة دافئة وليست باردة كالمدن الرّوسيَّة الأخرى..إنّها مدينة جميلة وساحرة" هذا ما قاله لي إسماعيل ونحن نضرب الخطى إلى الشقة التي سأقيم فيها، رغم تعب السّفر الذي نال مني وأعياني كثيراً، إلّا أنني كنت أرغب في التّجول، واكتشاف سحر هذه المدينة الرَّائعة، وهذا ما لم يتحقق لي في الأيام الأولى من تواجدي بها، بسبب عدم الاستقرار وانشغالي بالدراسة؛ لكن مع ذلك كنت من حين إلى آخر أقوم بجولات قصيرة بمعية أصدقائي الطّلبة،لا ترقى إلى ما كُنت أصبو إليه. إلى أن جاء اليوم المُناسب، وتزامن ذلك مع العُطلة الشّتوية، حينها طلبت من الأستاذ عمار– وهو سوداني مُقيم في كراسنودار، مُتحكم في اللّغة الرّوسيَّة، وشغوف بُمطالعة الكتب –أن نخرج في جولة استطلاعيَّة إلى المدينة وافق بعد إلحاح مني لا يُقابله الرَّفض، وأمضينا يوماً مُمتعاً في التجول لا تمحوه الذاكرة، زرنا أغلب المعالم التَّاريخيَّة والثَّقافيَّة والسِّياحيَّة في المدينة وحصلنا على كل ما نحتاجه من المَعلومات التَّاريخيَّة المُهمَّة عنها، وأجريناً بحثاً عمّا نجهله ولم نستطع الحصول عليه خلال جولتنا هذه، فكان أن خرجنا بهذا الموضوع: * ميلاد مدينة أُسِّسَت هذه المدينة عام1793 للميلاد بواسطة قوم "كزك البحر الأسود" الذين كانوا يقطنون جنوبأوكرانيا، حيث استدعتهم الإمبراطورة "ياكاترينا الثَّانيَّة" لحماية الحدود الجنوبيَّة للإمبراطوريَّة الرّوسيَّة آنذاك، ومنحتهم هذه المنطقة كهدية، وكنوع من التّدجين لوضعهم تحت سلطتها لأنّهم كانوا شعباً همجيّاً فعندما قابلوا الإمبراطورة واقترحت عليهم هذه الأخيرة زيّاً عسكرياً لفرقتهم بطراز أوربي خالص كبديل لزيّهم التّقليديّ، رفضوه؛ لكن لاحقاً وبعد مجيئهم للقوقاز واستقرارهم فيه، أعجبوا بالزي الشركسي "نسبة إلى قوم الشركس" واتّخذوه زيّاً رسمياً لفرقتهم مع بعض التّعديلات البسيطة التي تُعطي صفة التّميّز، لكن مع ذلك كان يبدو المُقاتل "الكزكي" أشبه ما يكون بالمقاتل "الشركسي والعثماني". وكلمة "الكزك" في حدّ ذاتها أصلها من اللّغة التّركية أطلقها الأتراك على هؤلاء القوم، وتعني هذه الكلمة "المحارب الوحيد". وبُعيد تأسيس مدينة كراسنودار"ياكاترينا دار قديما"- التي بدأت كحصن صغير لمجموعة أو عساكر الكزك على الضفة اليُمنى لنهر (كوبان) المعروف "– أصبحت من بين165 مدينة روسية في فترة حكم الإمبراطورة "ياكاترينا الثانية" أو "العظيمة" كما يُلقبّها أحيانا سكان المدينة لدورها الفعّال في نهضة بلدهم وهي ذات أصول أوروبية وسنعود إلى ذلك لاحقاً. سُميت المدينة لأول مرة باسم هذه الإمبراطورة حيث كان يُطلق عليها مدينة "ياكاترينا دار"، وهذه الكلمة تعني "هدية ياكاترينا" لأنّها أهدت هذه المنطقة لقوم الكزك وكانت المدينة إبّان ذاك هي المركز الرّئيس لمقاتلي ووحدات "كزك البحر الأسود" وعاصمتهم. وفي سنة 1860 سُميَّت وحدتهم بكوبان وأصبح يُطلق عليهم بالكوبانيين وكانوا يَتميّزون بلهجة خاصة بهم هي أقرب إلى اللّغة الأوكرانيَّة ولهذا الكوبانيون، أو أغلب سكان كراسنودار الحالية يفهمون اللّغة الأوكرانيَّة أكثر من غيرهم في روسيا، لأنَّ في لهجتهم المحليَّة توجد الكثير من المصطلحات أو نقاط الالتقاء مع لغة جارتهم الحدودية أوكرانيا، وهذا ما نُعيده – حسب رأينا – إلى سببين وهما، الأول هو أنّ جذور الكوبانيين تعود إلى أوكرانيا، وثانيا لأن هذه الأخيرة جارتهم وتتقاسم معهم نفس الحدود. وعند وصول الحكم السوفياتي بُعيد الثّورة في سنة 1920 تمَّ تغيير تسمية المدينة من "يكاترينا دار" إلى "كراسنودار" كنوع من الثَّأر والتَّخلص من الإرث القيصري، من قبل الثوار السوفيات أو البلاشفة، والجدير بالذكر أن كلمة "كراسنودار" لا تعني "الهدية الحمراء" فكلمة "كراسني …….." والتي تعني حاليا اللون الأحمر، لم تك تعني ذلك قديما، بل كانت تعني "جميل"، ولهذا فإن اسم المدينة لا علاقة له باللون الأحمر الشّيوعي، بمعنى أنّ اسم المدينة يعني "الهدية الجميلة"، وهذه هي الرّواية التي يُردّدها الرّوس دائماً. وفي سنة 1999 وصلت الكثافة السّكانيَّة للمدينة إلى 761 ألف نسمة، والآن تُعتبر هذه المدينة كواحدة من كُبريات المراكز الحضاريّة والعلميّة والثّقافيّة والسّياحيّة والصناعيّة والزراعيّة، في مركز الجنوب الرّوسي وعموماً فالمدينة هي عاصمة الجنوب الرّوسي، وتضم أربع محطات قطار، ومطار دولي، تُقدم خدماتها لملايين المتنقلين والمسافرين سنوياً وعدّة جامعات تستضيف عددا هامّاً من الطلاب الأجانب من مختلف الجنسيات يحجون إليها من كل فج عميق بما فيهم الطلاب العرب. * الإمبراطورة ياكاترينا الثانيّة…طلسم الخلود أثناء تجولنا أنا والصديق عمار في شارع الكراسنايا، اقترح علي زيارة تمثال الإمبراطورة "ياكاتريناالثَّانيَّة"، ولم يكن ببعيد عن مكان تواجدنا، إذ كانت لا تفصلنا عنه سوى عشر دقائق مشياً على الأقدام. مرَّت الدَّقائق مرور الغيث على الصحراء، لم نشعر بها، والحقيقة هي لأنَّ هذا الشّارع – الذي يعجّ بالحركة والحيوية- يملك طابعاً خاصاً وجوّاً سحرياً، إذ يجعلك لا تشعر بمرور الوقت، كل شيء فيه يستدعيك للتدبر والتّأمل. من مسافة ليست بالبعيدة، يظهر تمثال الإمبراطورة "ياكاترينا الثانيَّة" وهي تحمل في يدّها صليباً أو شيئاً من هذا القبيل. ومُحاطة بتماثيل حرسها الخاص تُحفة فنيَّة بحق تستدعي وقفة إعجاب. هذا التّمثال نُصّب – في مدينة كراسنودار- عام 1907 مُخلّدا للإمبراطورة "ياكاترينا الثَّانيَّة" في مركز المدينة، وبالضبط في شارع الكراسنايا المعروف وتمَّ تهديمه سنة 1920من قبل السوفيات الثّائرين على كل ما يُمتّ صلة بالحكم القيصري، ثمَّ فُكِّكَ هذا النّصب التّذكاري المُخلد للإمبراطورة المحبوبة، وتمَّ تذويب معدنه عام 1931 لإزالته فيزيائياً وإنهاء وجوده إلى الأبد، واستمر الحال هكذا إلى غاية عام 2006، حيث أُعيد بناؤه من جديد بطريقة متقنة تفنّن فيها النّحاتون؛ وبرعت أناملهم براعة النّحات الإغريقي، وفي نفس مكان تواجده السابق بشارع الكراسنايا، ومايزال إلى يومنا هذا ويُعتبر أحد أهم المعالم التي تجذب السُّياح. لقد كنت أتساءل، ما الذي جعل الكراسنوداريون–نسبة إلى سكان كراسنودار- يُحيطون هذه الإمبراطورة أهمية بالغة لهذه الدرجة من التّبجيل، ويتحدّثون عنها بكل فخر واعتزاز أمام كل سائح…؟ ما السّر الذي جعل هذه الإمبراطورة محبوبة لدى أغلب سكان المدينة…؟ فقد لا تجد أحدا لا يعرف تاريخ هذه الإمبراطورة إذ لا تتوقف ألسنتهم عن ذكرها أمام كل أجنبي يزور مدينتهم، ولمَّا تسألهم عن تاريخ مدينتهم تكون الإمبراطورة "ياكاترينا الثّانيَّة" هي بداية إجابتهم، كان هذا عاملا مُهِمّاً دفعني لأسأل صفحات التّاريخ، وأعود إلى الماضي باحثا عن إجابة تشبع فضولي، من هي "ياكاتريناالثّانيّة" هذه ..؟ ما حكاية هذه المرأة العجيبة التي تقف مُتبجحة "كآلهة القدماء" وسط المدينة ويُحيط بها حرسها الخاص في تحفة فنية تجذب المارة والسّائحيّن وتسّر النّاظرين ..؟. يُجيبنا التَّاريخ بأنّ هذه المرأة: اسمها صفية فريديريكا أفغوستا، ولدت في "2 ماي –21 نيسان" 1729في مدينة – شتتين الألمانية سابقاً –تشيتشن ببولندا حالياً والدها كان يعمل في خدمة "ملك بروسيا" كقائد فوج، ثم قائد فحاكم لمدينة شتتين الألمانية، أما أمها فقد كانت في مقام الخالة ل "بيتر الثالث" (إمبراطور روسي). كانت "يكاترينا"، تُتقن عدّة لغات أجنبية من بينها، الفرنسية والانجليزية والإيطالية، فضلا عن اتقانها اللّغة الرّوسيّة، وتعلَّمت في المدرسة فن الرّقص والموسيقي ومبادئ التّاريخ والجغرافيا وعلم اللّاهوت، والمعروف عنها أنّها كانت فضوليّة في طفولتها وفي مرحلة شبابها كانا والداهامستاءان جدّا من سلوكها الصّبياني فقد كانت تلعب مع الأطفال الصّغار في الشّوارع. في سنة 1744 وُجِّهت لها ولأمِّها دعوة للقدوم إلى روسيا لإقامة مراسيم زواجها بالأمير بيتروفيودرفيتش؛ الذي كانت تربطه بها صلة قرابة – وتزوجت به بناء على وصية خالتها – وقد أصبح هذا الأخير – فيما بعد – إمبراطوراً لروسيا القيصريَّة، وسُمي ب "بيتر الثالث"؛ ولكن فترة حكمه لم تدم سوى6 أشهر، حيث حكم من 25 ديسمبر 1761 إلى غاية 28 يونيو 1762بعد وفاته. تولَّت زوجته "ياكاتريناالثَّانيَّة" حُكم الإمبراطوريَّة بعده، وتُعتبر فترة حكمها هي أطول فترة حكم امرأة في تاريخ روسيا القيصريَّة، إذ حكمت من سنة 1762 إلى غاية وفاتها سنة 1796، ومن أهم إنجازاتها خلال فترة حكمها – وذلك بعد عام فقط من تنصيبها إمبراطورة لروسيا القيصريَّة-وافقت على إنشاء المجلس الإمبراطوري أو مجلس الشّيوخ "البرلمان ". * البوابة الملكيَّة "царские ворота" دائماً في شارع الكراسناياً الجميل، الذي لا تمل من التَّحديق وتوزيع أنظارك في كل زواياه، هذه المرة لفت نظري قوس أشبه بأقواس النّصر الرّومانيَّة؛ التي كان الرّومان ينصبها لتخليد أرواح أبطالهم، وانتصاراتهم على أعدائهم، كان بجانبي شاب روسي يبدو في الثلاثين من عمره يسلك طريقه إلى وجهة لا تعنيني، استأذنته، وطرحت عليه سؤالا "قل لي من فضلك ما هذا ؟" وأشرت بأصابع يدي إلى القوس، أو البوابة، ابتسم وأجابني بطريقة مهذبة قائلا هذه "царские ворота" ولم يضف بعدها ولا كلمة، جواب على قدر السّؤال وبدوري لم أسأل أكثر لعدم تمكني من اللّغة الرّوسيّة، شكرته على الإجابة وافترقنا، كلٌّ في طريقه، حفظت الاسم في ذاكرتي، مع رغبة فضولية بداخلي تدعوني إلى معرفة ماذا يعني هذا القوس أو البوابة، وبعد أيام عثرت على كُتيب صغير الحجم في أحد متاحف كراسنودار، وفيه تعريفات موجزة عن بعض المعالم السّياحيّة والمراكز الثّقافيَّة لمدينة كراسنودار، اقتنيته بسعر 100 روبل، وجدت فيه تعريفا مقتضبا لهذا القوس، وهو في الحقيقة يُسمى ب"البوابة الملكيَّة" ومما ورد في المقتطف التّعريفي هو بأنّه في سنة 1888 زار الإمبراطور الكسندر الثَّالث مع زوجته وأبناؤه مدينة "يكاترينا دار" (كراسنودار حالياً)، ومرّوا عبر قوس النَّصر هذا؛ الذي بُني على نفقة سكان المدينة وعلى الطّراز المعماري الموسكوي "في القرن السادس عشر"، وفي سنة 1928 دُمِّر من قبل السلطات السّوفياتيَّة، ليُعاد بناؤه عام 2006، ووضع في موضعه الجديد في شارع الكراسنايا، حيث كان سابقا يقع في تقاطع شارعي "يكاترينسكاياЕкатеринская" و "كوتلياريفسكاياкотляревская". * شارع الكراسنايا…قلب كراسنودار اكتشفت هذا الشَّارع بُعيد أيام من مجيئي إلى كراسنودار ، فهو لا يبعد كثيراً عن مقر سكني؛ الذي كان يقع في شارع "خاركوفسكايا"، كنت أسمع زملائي من الطلبة العرب في الجامعة يُردّدون اسم هذا الشّارع كثيراً، ويتحدَّثون عنه بشيء من الإعجاب فازداد فضولي وتلبستني رغبة مُلّحة في زيارته، لكن – ولظروف خاصة – دفنت فضولي، ولازمت انتظار اللّحظة، إلى أن جاء اليوم الذي كنت انتظره. في ليلة غازل فيها الدفء مدينة "كراسنودار"، خرجت بمعية هشام وباسل، هذا الأخير هو شاب سوري يعمل طبيبا في نفس المدينة، أما هشام فهو زميلي في الدراسة بمعهد اللغة في جامعة "كوبان" وهو قريب باسل أي كلاهما من نفس البلد، سوريا، وضعنا باسل بسيارته أنا وهشام، في شارع جميل، تُحيط به الأضواء الملونة من كل جهة، نزلنا نتمشى، ورحنا نضرب الخطى على استقامة واحدة، إلى وجهة نجهلها بُصحبة الموسيقى والأغاني الرَّوسيَّة بقديمها وحديثها المُشغلة بمكبّرات الصّوت والمثبتة على الأعمدة في الشّارع، على الهواء الطلق، لا تتوقف عن إطراب الرّاجلين. ونحن في وسط الشّارع نظر إليَّ هشام بعينين تُخفيان خلفهما ابتسامة لطيفة وبادر قائلاً "هل تعرف أنّنا في شارع الكراسنايا..؟" لم أكن أملك الإجابة بطبيعة الحال، فأجبته بالصمت راسما على ملامح وجهي كلمة "لا أدري" تفطن لجهلي ولم يتأخر في الإجابة ليضيف قائلاً "أجل ..نحن في شارع الكراسنايا". في عطلة نهاية الأسبوع الشارع يُخصّص للتمشي على الأرجل، ويُمنع منعا باتا على أصحاب السّيارات والدّراجات النّاريَّة. نقطة أخرى لفتت انتباهي حينذاك، وهي ظاهرة التّسول بالفن؛أما التّسول بالطرق التّقليديّة – التي نجدها عادة في بلداننا- تكاد تكون شبه منعدمة في مدينة كراسنودار إلّا في حالات نادرة؛ إذ وجدنا في الشّارع رجلاً في الخمسينيات من العمر، واضعا أمامه حقيبة صغيرة يدسُّ فيها المارة صدقة له، وآلة "السانتي" أو "البيانو" ومكبر الصوت، وكان يُداعب "البيانو" بأنامله، وباحترافية كبيرة لا تقل شأناً عن احترافية الذين يعملون في الفرق الموسيقية، استمتعنا لموسيقاه التي كانت ذات طابع "الروك" وصوته المُتميّز في الغناء مثل مطربي الروك، حتى قال صديقنا زيد – شاب سوري يدرس معنا التقيناه في طريقنا – مازحاً بلهجته السّورية "هذا عامل حفلة كبيرة لحالوا" ..ضحكنا كثيراً يومها؛ واستمتعنا أكثر. طول هذا الشّارع حوالي5 كلم مفروش ببساط أخضر تحفه أشجار مختلفة الأنواع، غُرست خصيصاً لغرض جمالي، ونافورات موزعة الأماكن بينها مسافة فاصلة مُحدّدة بدقة، يُعتبر هذا الشَّارع؛ المركز التَّاريخي للمدينة، حيث توجد فيه الكثير من المعالم الأثريَّة والتّاريخيَّة والثَّقافيَّة على غرار المتاحف، والمكتبات" مثل مكتبة بوشكين" ومنها ما أتينا على ذكره، بالإضافة إلى المباني الحكوميَّة، والمؤسَّسات الرَّسميَّة والمراكز التّجاريَّة. * في المتحف الذي يحفظ تاريخ المدينة كان هذا آخر المراكز الثَّقافيَّة الهامَّة التي زرناها أنا والأستاذ عمار، قضينا قُرابة الأربع ساعات ونحن نتجول بداخله، ولم نستطع رؤية كل شيء فيه، لكبر مساحته، وكثرة مُحتوياته، التي تعود إلى حقب زمنية مُتفاوتة تجعلك تُسافر عبر الزمن، تنطلق مع تأسيس المدينة، مُروراً بفترة الحرب مع العثمانيين وصولاً إلى الحربين العالميتين الأولى والثَّانيَّة، كل فترة زمنية بجناحها الخاص، وكل جناح خُصّص له مُرشداً سياحياً، لتوجيه السُّياح، والتّعريف بالمُقتنيات، كان هناك جناح خاص بالأديان، والحقيقة أنّه لا يوجد أي أثر للأديان الأخرى، عدا المسيحية التي يعتنقها أغلب سكان المدينة، توجد في هذا الجناح صور لمريم العذراء، والكتاب المُقدّس، أما جناح الحربين العالميتين، ففيه صور للمعارك التي خاضها الرّوس، ولأبطالهم وصور الزعيمين المعروفين، لينين وستالين، وكذا العلم الأحمر الشّيوعي، وبعض الوثائق الأرشيفية المهمَّة وأيضا الأسلحة والخراطيش والمدافع التي استعملت إبان ذاك، كما يوجد جناح خاص ببعض أنواع الحيوانات والأسماك التي تعيش في إقليم منطقة كراسنودار. * ماذا يعرف الكراسنوداريون عن العرب ..؟ "ماذا تعرف عن العرب ..؟" سؤال طرحناه على عدد مما التقيناهم من المجتمع "الكراسنوداري"، سواء في الجامعة أم في الإقامة الجامعيَّة، أم صدفة في الطريق، فكانت الإجابة دائماً واحدة "لا شيء ..Ничего" هناك من يكتفي لك بذكر اسم بلد أو اثنين من البُلدان العربيَّة، ثم يبتسم لك ابتسامة لطيفة ويُلحقها ب "آسف ..هذا فقط ما أعرف" …وهناك أيضا من قال لنا "العرب أُناس أغنياء، أنا لا أعرف سوى الإمارات، بلد غني جدّاً، يوجد فيه البترول"، حتى في الجامعة نفس الشيء، رغم وجود عدد هائل من الطُلَّاب العرب، من مختلف الجنسيات العربية، يتصدرها السوريون والعراقيون واليمنيون، إلّا أنَّ ذلك لم يُضف شيئاً للتعريف بثقافة المُجتمع العربيّ، فالمدرسون في معهد اللّغة، أغلبهم، لا يعرفون شيئاً عن العرب، سوى أسماء دول طُلابهم أو البلدان التي ترزح تحت نير الحروب، وهذا يعود إلى عدّة عوامل وأسباب، من بينها الطلاب العرب فهم لا يسعون إلى التّعريف بثقافات بُلدانهم، ولا يُكلّفون أنفسهم عناء ذلك …المُدّرسة جالينا فيكتورفنا "GallinaViktorovna"، لها خبرة طويلة في تدريس اللّغة الرّوسيَّة للطُلاب الأجانب، بما فيهم العرب تعرف الكثير عن المجتمع العربي بثقافاته المُتعدّدة ومميّزاته الحضاريّة، فقد زارت بلدا عربيا، وهو سوريا، وتحفظ عددا هاما من الكلمات العربيّة طلبنا منها أن تُجيب عن سؤالنا لكنها اعتذرت لنا قائلة "أنا أعرف الكثير عن العرب وذلك يحتاج منّا إلى جلسة مطولة، لهذا أعتذر، فأنا ليس لدي الوقت للإجابة عن سؤالكم بسبب ضغط العمل"…أما آنا فارافا"AnnaVarava"والتي تعمل في قسم الطُلاب الأجانب وهي طالبة ماجستير، رحبت بنا، وأجابت عن سؤالنا بمودة حتى وإن كان في إجابتها شيء من المُبالغة، إلّا أنّنا نقلناها بأمانة دون حذف أو إضافة، وهذا ما قالته عن العرب (رمال الصحراء على سواحل جبال البحر الأسود) عرفت هذه الجملة من أول يوم لتعرفي على العالم العربي. وهكذا أنا، منذ عام ونصف في رحلةإلى الشرق العربي. أنتم سألتموني ماذا أعرف عن العرب؟ ..للعرب تقاليدهم.,. يسعون إلى تأكيد علاقتهم الفلسفية بالحياة. العرب لايطيقون البهرجة..والعفوية، والقيل والقال، أوالثرثرات غير المتزنة. قراراتهم تأتي بعد تأمل وبحث في مختلف الملاحظات..هادئون..ببرود يتعاملون مع الأشياء؛ لكن هذا يعني أن العربي غير حيوي ومليء بالطاقة. حبهم للحرية يتوارثونه من الأجداد..وفي هذه الأمور ممكن أن يصل إلى العنف ويصبح مناقشا جريئا وسليط اللسان…وبشكل عام فأن الشرف بالنسبة للعربي مقدس..! أنتم سألتموني "إلى أي الأماكن أنا سافرت..؟..ربما لاتصدقون إذا ما قلت بأن الشرق يأتي بنفسه في ضيافة على ساحل البحر الأسود تاركا الرمل للحكيم على الساحل".