لخضر لقدي معاناتنا تتقاسمها السلطات الحاكمة، والشعوب الخانعة، والعلماء الساكتون الذين هم للباطل مساندون. وكما أن الشعوب سبب في معاناة نفسها، فإن للحكام والأنظمة الحاكمة مسؤولية جسيمة، وبين هؤلاء وهؤلاء يأتي دور العلماء، الذين بهم تصلح الدّيار، وتُعْمَرُ الأمصار، ويُكْبَتُ الأشرار. ودور الحاكم في الإصلاح حاسم، فقد قيل: إِنَّ اللَّهَ لَيَزَع بِالسُّلْطَانِ مَا لَا يَزَعُ بِالْقُرْآنِ. ومسؤولية الحكام والشعوب والعلماء مشتركة تتناسب طردا وعكسا، فما يكون لحاكم أن يستبد ويطغى ويظلم، لولا عون الشعوب نفسها على ذلك، وما كان الحاكم ليطغى، لو لم يجد من يزين له الطغيان، ويعينه عليه، ويحميه من كل معارض؟. والحكام ومعهم الشعوب وبعض العلماء اجتمعوا على أنواع من المنكر؛ هذا يأمر وهذا يطيع، هذا يزين ويمد، وهذا يطغى ويستكبر، والنتيجة سقوط أوضاع البلاد في الهاوية، وتردي معايش الناس وحرياتهم وكرامتهم. و صميم دور العالم: نصح للحاكم، وإرشاد الناس، وقول الحق والنصيحة، وتبصير الناس، وكشف زيف الباطل وأهله. ويفهم هذا كله في ضوء قوله تعالى: "وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ "- آل عمران: 187. وفي ظل قول سيد الأنبياء: الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ؟، قَالَ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ -رواه مسلم. والله تعالى قد أمر بسؤال العلماء فيما أُشكل على الناس، فهذه مرتبة العلماء في الاتباع وحفظ الشريعة، فهم ورثة الأنبياء، وأدلة الطريق، والخلق من ورائهم. لقد عمل الأعداء وفق خطة متكاملة بدأت بإشغال الشعوب، ونشر الرذيلة والفساد، وخلط المفاهيم وتمييعها، والتقليل من قيمة العلماء في نظر عموم الناس، وإقصاء العلماء عن دورهم القيادي. ثم نجح الغرب في تكميم أفواه الحكام بالتخويف تارة، وبالترغيب أخرى، وبالتهديد بإثارة الشعوب عليهم، وما لم نكن نتوقعه ولا ينبغي أن نتوقعه أن ينجح في إسكات العلماء والدعاة. وبعض العلماء لم يسكتوا بمحض إرادتهم وإنما منعهم الحكام من الكلام، ليس خوفاً من الفتنة كما يزعمون، ولكن خوفاً من أمريكا وأوروبا، وهذا ما لا يجهله أحد .. وإذا كان لا يجوز للحاكم أن يمنع العلماء من بيان شرع الله، فلا يجوز للعلماء السكوت عن البيان، فسكوت العلماء حجة للحكام، وفساد للرعية، ونقض للشريعة. ورصيد العالم من التقدير والاحترام لا ينتج بالضرورة من سعة علمه، بل من مواقفه الثابتة وثباته على الحق، وغياب العلماء عن الساحة يُنقص من رصيدهم عند الجماهير وخاصة الشباب. عار على عَالِمٍ لا تراه إلا على موائد الحكام ومجالسهم، ولا يظهر إلا تحت الحماية والرعاية، يقصر في واجباته وهو يرى الشعوب تنحدر وتضعف أخلاقها، وتبتعد يوما بعد يوم عن إسلامها، يرى التوجيه تتولاه أقلام مأجورة وقنوات فاجرة داعرة، لا يستحي أن يظهر على شاشاتها وينشط برامجها، يلعب بالبسطاء ويتاجر بالدين، ولا يعرف له غث من سمين. ولو نصح وبالغ في النصيحة لقلنا: أَدَّى مَا عَلَيْهِ. والعلماء لا يحتاجون إلى نصح من أمثالنا، ولكن حبنا لهم، وحرصناً على حفظ مكانتهم بين أفراد الأمة، وقراءتنا للتاريخ وللحاضر، واستشرافنا للمستقبل، يحتم علينا كلمة بهذه المناسبة. نعلم أن الانحراف بدأ مبكرا، ولكنه لم يكن شاملا، فقد استمرت الحياة الإسلامية، واستمرت الفتوح، واستمر تألق الحضارة الإسلامية واستفادت البشرية جمعاء من إنتاجها، وسطعت شمس العرب على الغرب، وما كان ذلك إلا بالعلماء لأنهم استمروا في أداء مهمتهم، ولم يتخلوا عن منصة التوجيه والنصح والإرشاد. حدثنا التاريخ عن موقف الإمام مالك وكيف تعرض لفتنة عظيمة لأنه أفتى بقول ابن عباس: ليس على مستكره طلاق- ولم تعجب هذه الفتوى العباسيين، فقد قيل لأبي جعفر المنصور إن مالكا يقصد: أن البيعة لكم لا تنفذ لأنها وقعت بغير رضا، فجلد مالك من أجل ذلك وشلت إحدي يديه، ومن أجل الحق لا بأس أن يضرب مالك، وقد ملأ الدنيا علما وحديثا وفقها؟. وحدثنا أنه: ما انتفت فتنة القول بخلق القرآن إلا لثبات الإمام أحمد، وما سمي العز بن عبد السلام بسلطان العلماء وبائع الملوك إلا لمواقفه الجليلة وثباته على الحق. ويحدثنا تاريخنا القريب عن دور ابن باديس ومعه علماء الجمعية، ودور شيوخ الزوايا المجاهدين المرابطين في الحفاظ على الشخصية الجزائرية العربية المسلمة: شعب الجزائر مسلم ***وإلى العروبة ينتسب من قال حاد عن أصله*** أو قال مات فقد كذب أما من رضي لنفسه دورا غير الذي نص عليه الكتاب، أو أشار إليه رسولنا الكريم سيد الأحباب، وسخر نفسه لخدمة هوى، أو تبريرا لفجور حاكم غوى، فهؤلاء من مضى منهم فقد مضى: لم يحفظ لهم التاريخ منقبة، وما رضي لهم قولا ولا عملا، ويوم القيامة يختصم عند الله الخصوم. أما من ما زال منهم على قيد الحياة، فالنصيحة إليه توجه: خذ العبرة ممن مضى وإلى ربه أفضى.