محاولة للفهم 9 الأمّة بنص القرآن أصناف ثلاثة: " فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله "، فالفاسق كما جاء في (شرح العقيدة الواسطية ص 172): " يدخل في مطلق الإيمان "، فكلّهم طائعهم وعاصيهم، برّهم وفاجرهم تستوعبهم مساحة الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من الدّين الحق. في حكومة المدينة زمن النبوة، كان الفاسق من أهل لا إله إلا الله معدودا في إحصاء الأمة، ومثل ذلك كان في حكومات الخلافة الراشدة، ولم يصنّف كآخر مخالف، حتى كان الحرص عليهم إلى درجة الاجتهاد مع بعض النصوص لمصلحة الحفاظ على دينهم وانتمائهم، حتى لا تستغلّ أطراف أجنبية أو دخيلة صفة تصنيفهم الدونية، فتستثمر فيهم بما يؤدّي بهم إلى خروجهم عن دينهم غضبا، وقد غرّب عمر بن الخطاب ربيعة بن أمية بعد أن زنى، إلى جهة قريبة من الروم، فالتحق بهم غضبا، وتنصّر، فقال عمر: " والله لا أغرّب بعده مسلما أبدا". وكان في زمن النبيّ رجل، يكثر من شرب الخمر، ويُؤتى به إلى النبيّ فيُجلد، وقد جيء به مرّة فقال أحدهم: " لعنة الله عليك، ما أكثر ما يؤتى بك "، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلّم: " لا تلعنوه إنّه يحبّ الله ورسوله "، رفض النبيّ صلى الله عليه وسلم نزع صفة الانتماء عنه بالرغم أنّه أكثر الفسوق والفجور، حتى قال ابن عبد البر: " ربّما شرب الخمر بعد تحريم نزولها ثمانية مرات "، وبالغ بعضهم فقال أربعين مرّة!. ومن أجل الحفاظ على انتماء هؤلاء العصاة والفسقة إلى أمتهم، أجاز الإسلام الصلاة عليهم، ودفنهم في مقابر المسلمين، وإن ماتوا سكارى، أو في حالة فسق وفجور!. وأجاز توارثهم مع أهليهم، وأجاز شهادتهم على تفصيل في أبواب الفقه، وشجّعهم على الطاعات، وإن وردت منهم باختلال، وقد سئل الشيخ ابن تيمية (الذي يصوره البعض متشددا) عن رجل يفسق ويشرب الخمر ويصلي الصلوات الخمس، فقال : " الذي يصلي خير من الذي لا يصلي، وأقرب إلى الله منه وإن كان فاسقا " (مجموع الفتاوى 22/07). فكر المفاصلة الذي صنعه البعض، بين المؤمنين وبين هؤلاء العصاة، باسم التميّز عن المجرمين، استنادا إلى ظواهر بعض النصوص من مثل :" فلن أكون ظهيرا للمجرمين "، وقوله تعالى : " أفنجعل المسلمين كالمجرمين "، وباسم تمايز الصفوف، أو تمايز الفسطاطين، كما كان يردّد أسامة بن لادن، قسم الأمة قسمين: مسلمين ملتزمين، ومسلمين مجرمين، يصحّ وصفهم بالكفر، بعدما ظهر منهم كفر الجوارح. هذا الفكر فكر المفاصلة والتميّز، هو فكر أقرب إلى الطائفية منه إلى فكر الأمة، مارسته قديما الخوارج، فضلّوا وأفسدوا ثم استباحوا به تدريجيا الدماء، والأعراض والأموال، وقد اخترعوا فكرة التكفير بالكبيرة و ورتبوا على هذا المنهج الهالك ضلالات كبرى تجيز قتل المسلم واستباحة ماله وسبي نسائه وتكفير حتى أولاده الصغار والرضّع، كما فعل نافع بن الأزرق مستدلا ب " فلا يلدوا إلا فاجرا كفارا". لقد كان منهج النبيّ صلى الله عليه وسلم منهجا استيعابيا، يستوعب كلّ من تلفظ بلا إله إلا الله محمد رسول الله، ويعزّز ويشجّع الانتماء إلى الأمة ولو على ضعف، ويترفّق بالنّاس ويتدرّج معهم ويحسن التعامل مع تعثراتهم وسقطاتهم وزلاّتهم، يحرّضهم على التوبة والإنابة ويرغّبهم في الطاعات، وينفّرهم من المعاصي والذّنوب، ويحتضن كلّ من يضعف ويرافقه إلى أن يقوم ويستقيم. والصالح المطيع قد يتعثر في منتصف الطريق، أو منتهاه، والعاصي المذنب قد يؤوب في منتصف الطريق، أو منتهاه: " إنّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، حتى ما يبقى بينه وبين الجنة إلا شبرا، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيكون من أهلها، وإنّ الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى ما يبقى بينه وبين النار إلا شبرا، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيكون من أهلها ". وقد جاء في توجيهات بعض أهل العلم، ممّن عرفوا المنهج :" لا تنظروا إلى ذنوب العباد كأنّكم أرباب "، وقد ذكّر الله المسلمين بعدم التّسرّع في إرسال أحكام التكفير والتفسيق، خصوصا وقد يكون الدافع إلى ذلك الهوى والطمع والشهوة، ومن الأفضل لهؤلاء أن يتذكّروا أنّهم كانوا أهل شرود عن الله فهداهم: " ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم لست مؤمنا، تبتغون عرض الحياة الدنيا، فعند الله مغانم كثيرة، كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم فتبيّنوا". فكر الأمة القائم على استيعاب الجميع، من هم في الحكم و من هم من الرعية، ومن هو من هذه القبيلة أو تلك، أو هذا العرق أو ذاك، من أهل الطاعة والالتزام أو أهل المعصية والذنوب، هو الفكر الذي يعبّر عن منهج الرسول محمد صلى الله عليه وسلم. أما فكر الطائفة القائم على التصنيف والشطب، وتشكيل جماعة داخل الأمة، فهو لا يعبّر عن المنهج ولا عن تطلعات الأمة، ومصدر من مصادر القلق الدائم للأمة، وممرّ لمؤامرات العدو الذي يتربص بديار العرب والمسلمين.